
#ملف_الهدف_الاقتصادي
في الأول من أيار (مايو)، يُرفع لواء الاحتفال بعيد العمال، لا كطقس موسمي يتكرر، بل كصرخة صامتة في وجه أنظمة لم تفهم بعد أن العامل ليس رقماً في دفتر الرواتب، بل هو روح الاقتصاد، وضمير المجتمع، وبوابة العدالة. وفي العالم العربي، حيث يتقاطع العمل مع التهميش، وتتشابك الكرامة مع الأزمات، يكتسب هذا العيد طابعاً خاصاً، أكثر وجعاً من البهجة، وأقرب إلى المرثية منه إلى الاحتفال.
العمل، في جوهره، ليس فقط نشاطاً اقتصادياً يولّد الدخل، بل هو علاقة اجتماعية وتعبير عن الذات. إنه البوابة التي يعبر منها الإنسان نحو الشعور بالجدوى، والمجتمع نحو تحقيق التنمية. غير أن هذه العلاقة تبدو في العالم العربي – باستثناءات قليلة – مشوّهة، إذ يرزح العمال تحت أثقال البطالة المقنّعة، وغياب الحماية الاجتماعية، وتدني الأجور، واستشراء الاقتصاد غير الرسمي، مما يجعل من “عيدهم” مناسبة للتأمل أكثر من التهليل.
وإذا كانت قضايا العمل والعدالة الاجتماعية مطروحة في كل سياق عربي، فإن السودان يمثل اليوم ذروة المأساة. ففي بلد يُمزّق بالحرب والانهيار المؤسسي، لم يعد العامل يتساءل عن راتبه، بل عن سلامته. لم يعد ينتظر ترقية، بل مأوى. صار المصنع ساحة معركة، والمزرعة موئلاً للنازحين، والمؤسسة الاقتصادية بقايا أطلال.
في الاقتصاد الكلاسيكي، يمثل العمل أحد عوامل الإنتاج الأساسية إلى جانب رأس المال والأرض. أما في الاقتصاد السياسي، فهو الركيزة التي تتحدد من خلالها معالم التوزيع، والعدالة، والتحوّل الاجتماعي. لكن في واقع الحرب السودانية، انقلبت المعادلة: صار العمل فعلاً فدائياً، ووسيلة للبقاء، لا للإنتاج؛ وصار العامل، بدلاً أن يكون محرك التنمية، مادةً للاقتلاع والنزوح.
ورغم هذا الانهيار، يظل العامل السوداني يمثّل جوهر الصمود غير المعلَن. فالمرأة التي تخبز في مخيم نازحين، والرجل الذي يكدّح في متجر صغير تحت القصف، والشاب الذي يصنع أدوات الحياة في أطراف المدن، كلّهم يمارسون “العمل المقاوم”، عملٌ ضد الفناء، عملٌ يبقي الحياة ممكنة في وطن على شفير الهاوية.
أما على المستوى العربي الأوسع، فإن أزمة العمل مرتبطة ببنية اقتصادية ريعية في كثير من الدول، ونظام تعليمي لا يلائم السوق، واستثمارات لا تُراعي العدالة الجغرافية أو الفئوية. وفي ظل التحولات العالمية نحو الذكاء الاصطناعي والاقتصاد المعرفي، يقف العامل العربي أمام تحدٍ مضاعف: أن ينتج في واقع لا يعترف بإنتاجه، وأن يصمد في نظام لا يمنحه الحماية الكافية.
من هنا، فإن عيد العمال يجب ألا يكون فقط مناسبة للاحتفال الرمزي، بل منصة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والعامل، بين التنمية والعدالة، بين الاقتصاد والكرامة. وفي ظل الأزمات، لا سيما في السودان، يصبح واجباً على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين إعادة الاعتبار لمفهوم “الاقتصاد الإنساني”، الذي يضع الإنسان – العامل – في قلب السياسات لا على هامشها.
كما يجب أن يُطرح السؤال بصراحة: أي مستقبل للعمل في وطن بلا كهرباء؟ كيف نحتفي بعامل لا يملك سقفاً آمناً؟ كيف نتحدث عن الإنتاج في ظل اقتصاد تدمّره الحرب ويُنهكه النزوح؟ إن إعادة الإعمار تبدأ من الإنسان، والعامل هو بوابة هذه العودة. لا إعادة بناء بلا عدالة في الأجور، لا نهضة بلا تثبيت لقواعد الحماية، لا سلام بلا احترام لعرق الجبين.
وفي الختام، ليس عيد العمال يوم راحة من العمل، بل هو يوم للتذكير بقدسية الكدح، وكرامة اليد المنتجة، وضرورة أنسنة السياسات الاقتصادية. هو نداء للإنصاف، في زمن تتقدّم فيه أرباح الشركات على أرواح الناس، وتُقاس التنمية بمؤشرات الأسواق لا بمؤشرات الحياة.
ففي هذا الأول من أيار (مايو)، لن نكتفي بالتهنئة، بل سنرفع الصوت من جديد: الكرامة تبدأ من العمل، والحرية لا تُستكمل إلا حين لا يخشى العامل أن يقول “لا”، والعدالة لن تكتمل إلا حين يصبح الإنتاج مرادفًا للكرامة، لا للامتهان.
Leave a Reply