
بقلم: أحمد محمود أحمد
منذ أن طُرحت فكرة “السودان الجديد”، ظلت عرضة للجدل والتجاذب بين مختلف القوى السودانية، خاصة تلك التي تصنف نفسها ضمن قوى الهامش، سواء من الحركات المسلحة أو الجماعات السياسية التي تنطلق من الأقاليم.
في فبراير 2025، صدر “ميثاق نيروبي”، الذي عُدّ لحظة مفصلية في تأطير مشروع السودان الجديد وفق رؤى قوى الهامش. غير أن قراءة متأنية لهذا الميثاق تُظهر وجود خلل في التأسيس المفاهيمي، وضعف في بلورة خطاب بديل متمايز عن خطاب المركز الذي طالما انتُقد. هذه الورقة تحاول تقديم قراءة عكسية ونقدية لخطاب قوى الهامش كما تجلّى في ميثاق نيروبي، من موقع الهامش ذاته، لا من موقع خصومة مع الهامش أو تمجيد للمركز.
أولاً: سؤال الحداثة السياسية
سقط الميثاق في فخ الحداثة السياسية الغربية، من حيث استنساخه لأطرها دون مراجعة نقدية جادة. لقد تعامل مع مفاهيم مثل الدولة، والسلطة، والمواطنة، بطريقة مجتزأة، دون تفكيك بنيتها المعرفية أو مراعاة السياق السوداني وتعقيداته الثقافية والاجتماعية. هكذا أعاد إنتاج المركزية التي يدعي تجاوزها.
ثانيًا: إعادة إنتاج خطاب المركز
بدلاً من تأسيس خطاب جديد، يعيد الميثاق إنتاج المنطق الإقصائي ذاته الذي تأسس عليه خطاب المركز. يتجلى ذلك في تجاهله للسياقات المحلية، وإغفاله لدور القواعد الشعبية لصالح النخب السياسية، ما يكرس نمطًا فوقيًا في التفكير السياسي. لم يكن الخطاب ثوريًا بما يكفي لتجاوز عقل الدولة القديمة.
ثالثًا: العلاقة بين الدين والدولة
رغم أهمية تفكيك العلاقة بين الدين والسياسة في السودان، اكتفى الميثاق بعبارات عمومية لا ترقى إلى مستوى الإجابة الحاسمة. تجاهل الميثاق الأسئلة الجوهرية حول استخدام الدين كأداة للسلطة، ولم يطرح بدائل واضحة لعلاقة الدين بالدولة الحديثة.
رابعًا: غياب منظور النوع الاجتماعي
واحدة من أكبر نواقص الميثاق أنه تجاهل قضايا النوع الاجتماعي، رغم أن النساء كنّ في طليعة الحراك الثوري. لم يطرح الميثاق رؤية جندرية، ولا أشار إلى العدالة الاجتماعية من منظور نسوي. وهذا يُعدّ إعادة إنتاج للتراتبية الذكورية التي تشكّل جزءًا من أزمة الخطاب السياسي في السودان.
خامسًا: الخطاب الهوياتي وتقزيم التنوع
يحاول الميثاق الانتصار للتعدد الثقافي واللغوي، لكنه في الواقع وقع في فخ “الهوياتية الضيقة”، حيث بدا وكأنه يُقسم السودان إلى كتل إثنية وثقافية متناحرة، دون بناء مشروع وطني جامع يتجاوز هذه الانقسامات. الخطاب لم يتجاوز منطق الشكوى إلى مشروع عقلاني شامل للتغيير.
سادسًا: غياب الرؤية الفلسفية
لم يحمل الميثاق مشروعًا فلسفيًا أو أخلاقيًا متماسكًا، بل اعتمد على لغة سياسية شبيهة بخطابات الحركات المسلحة التقليدية. وهو بذلك فشل في تقديم رؤية تتجاوز الشعارات إلى تأسيس معرفي قابل للبناء عليه.
خاتمة
إن مشروع السودان الجديد بحاجة إلى مراجعة جذرية تبدأ بتفكيك اللغة المستخدمة في خطابه، وإعادة بناء تصوراتنا عن الدولة، والمواطنة، والدين، والهوية، من منظور قيمي وفلسفي جديد. لا يمكن أن يكون خطاب الهامش نسخة معدّلة من خطاب المركز، بل يجب أن يكون نقيضه المعرفي والسياسي.
Leave a Reply