
قصه: محمد حماد عبدالمنعم
ما اسمك، وما عملك؟
أحمد علي كما كانت تناديني جدتي رحمة الله عليها…طالبًا في آتون الحـــرب؛ مسلم….وحدوي وقوميٌ الفكر والتوجه والانتماء…أعمل لدى الحياة المعمورة.
كيف تعرفت على “صفية.” ؟!
كنت على موعد مع أيمن بداية شارع (البحوث الزراعية) لنوزع المنشورات؛ الداعية لإسقاط الانقلاب والمناشدة والدعوة #لبناء_جبهة_شعبية_عريضة.
كنا نرتدي ملابس أنيقة ونتكلم كلام شباب يعاكسون الفتيات، ونجلس في بداية الزقاق؛ وفي اليوم التالي للقائنا في ذلك الزقاق، كنا نتحدث عن الراهن العام وتعقيداته … وعن طباعة المنشورات في كل ركن في الجامعة،
وأحياء المدينة المحاصرة الراقي منها والشعبي؛ انتبهنا إلى أن إحدى دوريات جهاز الأمن والشرطة تتابعنا….توقع أيمن أن تكون السيارة تتبع للأمن جاءت لاعتقال الطُلاب السياسيين…
ومن أجل التمويه، أخذ ينظر إلى مجموعة طالبات الجامعة الجميلات العائدات من حوش المجمع، وقال لي: (أنظر إليهن يا أحمد حتى تعود الأمور إلى حالتها الطبيعية)..
رفعت رأسي أنظر إليهن في الظاهر، بينما كانت عيناي تنظران في الحقيقة إلى كتابة على الجدار خلفهن مكتوب عليه:
(الشعب أقوى أقوى والردة مستحيلة)
كأن حياتي الذاتية والرغبة في النضال تطغيان على سائر مشاعري الأخرى!
ذهبن الفتيات وكذلك السيارة، في حين كان الجالسون فيها لا يزالون يحدّقون فينا إلى آخر لحظة..
جلسنا على مصطبة أحد الدكاكين، قال أيمن: (الورق الأبيض السميك في الكتابة اليدوية، أفضل منه الورق الأبيض الناعم…لأن الحبر، لا ينفذ فيه بسهولة، فالمنشورات السابقة لم تكن جيدة).
سمعنا صوت توقف سيارة أخرى،
رفعت رأسي لأرى هل هي السيارة الأولى ؟! كانت سيارة أجرة تنزل مسافريها، وإلى جانب السيارة كانت هناك فتاة تنظر إليّ….وفي لحظة ألتقت نظراتنا؛ أبتعدت الفتاة خطوتين ثم اتجهت إلينا مباشرةً…..كانت ترمقني وكأنها تعرفني منذ زمن!
أيمن أيضاً انتبه إلى أن الفتاة تتجه صوبنا، ثم حوّلت الفتاة كتبها من يدها اليمنى إلى اليسرى، ثم صفعتني على وجهي دون إظهار أي مقدمات!
ارتبك أيمن…وقالت الفتاة ليّ: ألا تخجل ؟! لماذا لا تتركني وشأني ؟!
سأقول لأبي كي يوقفك عند حدّك.
نهض أيمن وأمسك بيدها، وقال: (لقد أخطأت يا بنت)…
أجابت الفتاة: أأنا التي أخطأت ؟! منذ أيام وهو يتابعني!
_قالت ذلك ثم ذهبت..
كنت مذهولاً بعض الشيء، وقد أحمرّ وجهي حتى أذناي من الخجل…قال أيمن (هل كانت لك سابق معرفة بها؟) قلت: لا والله، لقد اشتبهت فيّ،
هل تصدقني ؟! فضحك وقال: واضح، إن شكلنا يشبه الشباب
الذي يعاكس الفتيات..
لكن قلبي كان مندملاً…..قلت لنفسي: قد يتصوّر أيمن أنني لا أزال غير مستغرق في النضال، لذلك قلت له: (منذ الغد لن يكون لقاؤنا هنا)
فقال أيمن: أتخاف أن تأتي ثانيةً ؟! فقلت: لا طاقة لي بهذا الكلام، ألا يوجد مكان آخر أفضل من هذا ؟! حتى نتجنب ما حدث وما سيحدث مستقبلاً ؟!
كان موعدنا في الغد بداية محطة (شيراز/ القلعة) كنا منشغليين
بالحديث، فإذا بالفتاة نفسها خطوتين أو أكثر ثم عادت إلينا..
قلت لأيمن: هذه المرة سأرد عليها؛ قال: أضبط أعصابك…ثم وقفت الفتاة أمامنا كانت تحوّل كتبها من يد إلى أخرى؛
ثم قالت: (لماذا لا تتركني وشأني؟) نهضت من مكاني واقفًا،
أجلسني أيمن وقال: يا جميلة” قلت لك بالأمس إنك مخطئة!
قالت الفتاة: لم أكن مخطئة أبداً، إنه يتتبعني، ويقول لي: أعشق عينك وشفتاك، وأُريد أن آخذك وأهرب بك بعيدًا عن كوكبنا هذا ومن فيه..
أخذ أيمن الفتاة جانبًا وتكلم معها وسرّحها….قلت له:
(أيمن لا طاقة لي بهذا الكلام المعسول الشريف؛ أنا من الآن وصاعدًا مستعد لبيع “مناديل الورق، والحلوى، والسجائر” في كل أسواق المدينة، كي نتمكن من التجوال والكلام بحرية، أما الوضع الحالي فلا أطيقه أبدًا.
وفي الأيام التالية، كنت أبيع مناديل الورق، والحلوى، والسجائر ويأتي إليّ أيمن على أنه مشتر، فنتحدث في أمورنا ثم يذهب..
وفي اليوم الثامن لي كبائع للسجائر للمدخنين، ومناديل الورق، والحلوى، لطالبات الثانوي وطُلاب الجامعة؛ وأثناء تجوالي جاءت الفتاة، انتظرت حتى أتمّ إحدى الفتيات المشتريات وعندما ذهبن…..قالت: متى تريد أن تأتي لتخطفني وتهرب بي ؟! ….نظرت إلى عينيها بحدّة وودت لو رميتها بتلك السلة التي أحملها على يداي وواضعًا عليها (مناديل الورق/ وعلب الحلوى، وصناديق السجائر) على رأسها !!
**رأيتها تبكي….وكان لعينها سحر غريب وعجيب،
أمسكت بيدي وقبلتني وقبّلتها فأحببتها.**
_تنكر أن علاقتك بها كانت سياسية أكثر من كونها عاطفية ؟!
كانت صفية ذكية بشكلاً مفرط، تدرس الطب….وكنتُ بالنسبة لها ملهماً كأسطورة حب ليلى والمجنون.
لكنني لم أكن قد خلقت لكي “أعشق وأحب” لقد كانت مشاهدة النازحين والفارين من ويلات الحــــرب والمتسولين في الشوارع، تؤثر فيّ أكثر من جمال فتاة….لكنني لا أنكر أنني أيضاً أحببت براءة عينيها، وصفاء سريرتها….أنا متديّن، كنت أنظر إلى عينيها مكرهًا، لأنني كنت أعلم
أن لا زواج في الأمر، لكن عينيها لم تكونا لتدعاني في خيالاتي….كنت أتجنب إثارتها…..كانت في البداية تعطيني رسائل غرام= وتحكي لي عن تبدل الزمان وتبدلنا نحن البشر وعن الخذلان، والصداقات الفاشلة، والرفقة الخبيثة، فأجيبها= بمنشورات ورسائل
سياسية…..بعد ذلك كانت تكتب لي منشورات……فكنت أجيبها برسائل غرام !! كانت تقول: (إن نظام الجبهة المتأسلمة الذي جاء إلى سدنة الحكم في الظلام الحالك بعد أن أعدم الضباط الأحرار…..حكم السودان ثم دمرنا بالكامل! ولأنه حرفيًا يقف بوجه حبّنا !!)
هي لم تكن سياسية بالمعنى الدقيق….ولو كنت مسؤلاً أو موالي لطرف من أطراف (حــــرب الكرامة/ أو حرب الديموقراطية..) أو ممن كانوا يوالون حكومة الإنقاذ؛ لكانت ممن يوالون الرئيس المخلوع البشير !!
كانت عاطفية= رقيقة تحيا في دراستها للطب، واهتمامها بالأدب، وكتابة الشعر والتأمل بدل الأكل.
_إذاً كانت علاقتك بصفية عاطفية فقط؟!
ما الذي أوصلها إلى وكركم أيام انقلاب برهان-ومحمد حمدان-وجماعة القصر…..حتى تُعتقل هناك ؟!
لم أعطها العنوان، كانت تطاردني باستمرار، وفي أحد الأيام طرقت باب البيت (الوكر) فخفت….لأن رفاقي أيضًا لم يكن لديهم عنوان وكري….ثم أخذت موضعاً خلف الباب، فتكرر طرق الباب هذه المرة بشدة وعنف…..صعدت فورًا إلى السطح لكي أهرب..
تصوّرت أن الوكر محاصر من جميع الجهات! أرسلت نظري من حافة السطح فرأيت “صفية” في كامل أناقتها ورائحة عطرها الأخاذ تربط المكان؛ وتحمل معها باقة ورد، وورد ياسميني وترسم على شفتيها ابتسامة قوية گالحرب، وناعمة گالسلام.
#انتهى