
زكريا نمر
في أعماق جنوب السودان، وتحديدًا بين قبائل النيلية كالدينكا والنوير والشلك، يتجلى حضور روحاني يتجاوز المفاهيم التقليدية للزعامة والدين. إنه الكجور شخصية تجمع بين الكهانة والحكمة والسلطة الروحية، وتحضر بقوة خاصة في أوقات الحرب والأزمات.
الكجور ليس مجرد رجل دين، بل هو تجسيد للعلاقة العميقة بين الإنسان والقوى اللامرئية في الكون. ينظر إليه كوسيط بين عالم البشر وعالم الأرواح، ويتدخل في القرارات المصيرية، من الزواج إلى الحرب، ومن الزراعة إلى العدالة. في أوقات النزاع، يتحول الكجور إلى كجور حرب، يُستشار قبل المعارك، ويبارك الجنود والأسلحة، ويحدد اللحظة المناسبة للهجوم أو الانسحاب، بناءً على رؤى يُعتقد أنها تأتيه من الأرواح أو الأجداد.
تُبنى كثير من هذه المعتقدات حول كائنات تُعرف بجوك، وهي أرواح متعددة الوظائف، يمكن أن تكون حامية أو مؤذية. يُعتقد أن الفشل في استرضاء جوك يؤدي إلى الكوارث، وأن الكجور وحده يمتلك مفاتيح التفاوض مع هذه الكائنات. ولذلك، يظل الكجور شخصية ذات مهابة، يُخشى غضبه وتُطلب بركته، وتُقدم له القرابين لتقوية صلته بالعالم الروحي.
يستخدم الكجور تقنيات وطقوسًا متعددة لحماية المجتمع: الرماد المقدس لرسم رموز على أجساد المحاربين، دماء الأبقار أو الماعز في طقوس التطهير، طقوس الرقص الجماعي والإنشاد، تلاوة تعاويذ وأغان طقسية بلغة روحية. كل ذلك يُمارس بهدف تحصين المقاتلين من الأرواح الشريرة ومن لعنة الأجداد غير الراضين.
يروي الكبار أن كجورًا من الشلك أستطاع أن يوقف زحف جيش غاز بأن فجّر النهر أمامهم عبر طقوس خاصة. انتشرت الحكاية في المنطقة باعتبارها دليلًا على القوة الروحية للكجور. كذلك، يُحكى عن كجور من الدينكا أنه أحرق السماء عندما تحداه أحد الزعماء، فدخل في طقس غامض، وبعد أيام سقطت صواعق غريبة في القرية. يُقال إن الأرواح كانت تحذرهم بعدم كسر كلمة الكجور. أما كجور من النوير، فقد اشتهر بقراءته للنية القتالية، وقد حذر من خوض معركة ما لأن الأرواح كانت غاضبة. لم يُستمع لتحذيره، فانهزم الجيش، وأعيد الاعتبار له لاحقًا.
مع تمدد التعليم والدين المسيحي وانتقال السكان للمدن، بدأت سلطة الكجور تتراجع. ومع ذلك، لا يزال يُلجأ إليه في المناطق الريفية، خصوصًا عندما تفشل القوانين الحديثة في حل النزاعات أو تهدئة الأرواح. الكجور اليوم يمثل صراعًا بين الموروث والحداثة، وبين المعرفة التقليدية والأنظمة الدينية الرسمية.
يمثل الكجور قلب النظام الرمزي للمجتمعات النيلية. هو الحكيم، الكاهن، المحارب، الراعي الروحي، وصوت الأسلاف. إنه ليس مجرد شخصية خرافية، بل مؤسسة ثقافية تعبر عن حاجات الإنسان لفهم المجهول، والسيطرة على المصير، ومواجهة الألم عبر المعنى.