المدنيون ما بين مطرقة انتهاك الشرعية الإجرائية وسندان الانتهاكات المباشرة

الأستاذ/ أحمد التجاني بابكر التجاني
المحامي والمستشار القانوني

بعد أن تبين فشل انقلاب 25 أكتوبر 2021 في تحقيق مراميه الهادفة إلى قطع الطريق على مسار التحول المدني الديمقراطي، جاءت حرب 15 أبريل 2023 لقطع المسار ولإعادة النظام الذي أسقطه الحراك الثوري، كمحاولة ثانية يائسة للهروب والإفلات من العقاب عن كل ما ارتكب من جرائم منذ 1989 بما فيها جرائم فض الاعتصام وقتل الثوار أثناء المسيرات والمظاهرات السلمية قبل وبعد الانقلاب، وما يؤكد ذلك أننا قد ظللنا ومنذ فترة نتلقى أخبارًا على وسائط التواصل الاجتماعي مفادها تقديم أشخاص للمحاكمة كان آخرهم الطالبة ضحى والمحامي منتصر، وكذلك أنباء عن صدور أحكام قضائية بالإعدام أو السجن المؤبد أو الطويل على أشخاص بتهم قاسمها المشترك التعاون مع الدعم السريع أو التخابر لصالحه، لتـأتي الطامة الكبرى بعد ذلك بأن انتشرت في الفترة الأخيرة بذات وسائط التواصل الاجتماعي مجموعة مقاطع مصورة (فيديوهات) لعسكريين يقومون بقتل أشخاص مدنيين بزعم أنهم متعاونين مع الدعم السريع، مما يؤكد بشكل لا لبس فيه على أن الثورة والثوار هما المستهدف بكل من الانقلاب والحرب، حيث أن تلك الإعدامات الميدانية قد طالت متطوعين في التكايا، وفي لجان الطوارئ والخدمات والعاملين في العون الإنساني، الأمر الذي شكل ولا يزال يشكل انتهاكا صارخًا للقوانين الداخلية والدولية.
فبالنسبة للأحكام التي صدرت بإدانات بتهم غريبة، نجد بأن أغلب المتهمين فيها قد تم القبض عليهم من قبل الاستخبارات العسكرية والأجهزة الأمنية، وتعرضوا لأنواع شتى من التعذيب والتنكيل، في انتهاك صريح لمبادئ الشرعية الإجرائية التي تستهدف سلامة الإجراءات لضمان توفير محاكمات عادلة، التي تتطلب عدة عناصر واشتراطات، أهمها أن يتم القبض على المتهم من قِبل الجهات المختصة المتمثلة في الشرطة في حالة التلبس، أو بناءً على أمر من النيابة العامة في غير حالات التلبس، مع وجوب المعاملة الكريمة وعدم الحط من الكرامة، والامتناع عن التعذيب، وبالرغم من القبض الباطل وما تبعه من استدلالات وتحقيقات باطلة أيضًا وعلى إجراءات قبض باطلة، تمت محاكمة أولئك المتهمين، في ظل أوضاع استثنائية تمثلت في الحرب وما ترتب عليها من فقدان السلطة القضائية لحيادها المطلوب، للدرجة التي ظهر فيها أحد منسوبيها بدرجة قاضي استئناف وهو يرتدى البزة العسكرية وحاملًا سلاحًا مقاتلًا مع أفراد الجيش، وبالتالي كانت النتيجة الطبيعية في ظل عدم الحياد هذا صدور أحكام متعجلة لا تستند إلى أي أدلة سائغة بإدانة المتهمين وتوقيع عقوبات باطشة بحقهم.
وفي ظل هذه العتمة التي خلفتها ظلال المخالفات الصريحة للقوانين من قبل السلطات العدلية، تأخذنا الذاكرة إلى الموقف النبيل الذي جسده أستاذنا العالم الجليل المرحوم/ الصادق سيد أحمد الشامي ( له الرحمة والمغفرة والعتق من النار )، حينما استقال من منصبه كمدعي عام، باستقالة مسببة، احتجاجًا على تعذيب المعتقلين على إثر فشل حركة 1976 المسلحة المناهضة لنظام مايو، وما أحوجنا اليوم لمثل هذه المواقف ولأمثال المرحوم الصادق الشامي الذي نفتقده كثيرًا في مثل هذه الظروف، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
أما عن الانتهاكات المباشرة فقد اختصت اتفاقيات جنيف وملاحقها بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة الدولية والداخلية، ومن ضمنها اتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 أغسطس 1949، التي توسعت في مفهوم المدنيين المشمولين بالحماية، حيث أدرجت أفراد القوات المسلحة (أي قوات مسلحة) الذين ألقوا السلاح ضمن المدنيين المشمولين بالحماية، حينما نصت على أن الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزين عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز ولأي سبب آخر، يعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية، دون تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة أو أي معيار مماثل آخر، وحظرت على الأطراف المتحاربة أو المتقاتلة، الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية وخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه والمعاملة القاسية، والتعذيب، كما حظرت أخذ الرهائن، والاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، كما حظرت إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكلة تشكيلًا قانونيًا، وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة.
وبتطبيق ما تقدم على ممارسات طرفي الحرب، نجد بأن المدنيين وحقوقهم المحمية بموجب القوانين الداخلية والدولية، قد ظلوا هم الهدف الرئيسي لكلا الطرفين، حيث شاهدنا من خلال المقاطع المصورة، ما تم من قتل للمدنيين رميًا بالرصاص أحيانًا، وأحيانًا أخرى تم القتل بأشكال أكثر وحشية وصلت حد الذبح وبقر البطون، كما شاهدنا مقاطع أخرى يتم تعذيب المدنيين فيها بأبشع وأقسى وسائل التعذيب تراوحت بين الإيذاء الجسدي والضرب وبين امتهان الكرامة الذي وصل حد إجبار الضحية على تقليد أصوات الحيوانات، وقد تم كل ذلك خارج إطار القانون ودون أي محاكمات، لذا فإن هذه الحرب أبعد ما تكون عن كرامة الإنسان لذا فهي بحق حرب المهانة.
ومن جماع كل ما تقدم يمكن القول بأن حماية المدنيين قد ضاعت ما بين مطرقة انتهاك الشرعية الإجرائية وسندان الانتهاكات المباشرة.