
في خضم تحولات دراماتيكية تعيد تشكيل المشهد السوداني الغارق في دوامات العنف وانهيارات المؤسسات، صدر قرارٌ من حكومة بورتسودان، أنهى به مجلس الوزراء تكليف الوالي المدني للولاية الشمالية، عابدين عوض الله، وعين خلفاً له لواءً متقاعداً، هو اللواء (م) ركن عبد الرحمن عبد الحميد، ليتولى مقاليد الحكم في ولاية طالما ظلت بمنأى نسبي عن الحريق المتصاعد في أطراف البلاد.
هذا القرار الذي جاء في توقيت بالغ الحساسية، حيث تُمسك الحرب برقبة الدولة وتمتد حرائقها صوب الشمال، فتح أبواب التأويل واسعاً أمام خلفيات التعيين، وحرك المياه الراكدة فيما يتعلق بمآلات العلاقة بين الحكم المدني والمكون العسكري، خصوصاً أن الشمالية – حتى الأمس القريب – لم تكن ساحة مواجهة رئيسية، بل ظهرت كمنطقة “عازلة” نسبياً، تستنزف القلق ولا تطلقه.
السطور الرسمية.. إشارات معلنة ومبررات ضبابية
جاء القرار الموقع من وزير شؤون مجلس الوزراء المكلف، عثمان حسين، معللاً بضرورات أمنية واقتصادية ضاغطة تُثقل كاهل الولاية الشمالية، مع الإشارة إلى سلسلة من الاستهدافات التي طالت البنية التحتية، لا سيما الكهرباء والمياه، وهي اعتداءات لم تقف عند حدود الشمالية، بل امتدت إلى عدد من الولايات. وبرغم أن هذه الهجمات تُعزى غالباً إلى تكتيكات عسكرية تستهدف إرهاق الدولة، إلا أن القرار ذهب مباشرة إلى اختيار عسكري مقاعد باعتباره الرد الأمثل.
الجانب الأمني المباشر.. استباق العاصفة
التعيين في جوهره يبدو وكأنه إعلان تعبئة مبكر لمواجهة سيناريوهات أمنية متوقعة، خاصة في ظل التصريحات النارية التي أطلقها نائب قائد قوات الد*عم السر*يع، معلناً نوايا صريحة باستهداف ولايتي نهر النيل والشمالية، اللتين شهدتا مؤخراً هجمات بطائرات مسيرة بلغت درجة غير مسبوقة من الدقة. هذا التصعيد الممنهج أعاد ترتيب أولويات الحكومة، لتتحول الشمالية من ولاية ظلّ إلى مركز ضغط، يتطلب استجابة لا تلتزم فقط بالردع، بل بالتموضع الاستراتيجي المسبق.
وبحسب قراءات متعددة، فإن تعيين جنرال سابق على رأس السلطة الولائية قد يكون جزءاً من مسعى لتحصين الجبهة الداخلية وتسهيل التنسيق مع القوات النظامية الموجودة في المنطقة، خصوصاً أن أي تحرك مباشر نحو الشمال، إن وقع، فسيحمل أبعادًا استراتيجية خطيرة ترتبط بمراكز الإنتاج ومواقع حساسة كسد مروي.
بيد أن هذا التبرير يصطدم بمجملة من المعطيات أبرزها أن الحرب حتى الآن عبر المسيرات وليس المواجهة المباشرة فضلًا عن وجود الوحدات والتشكيلات العسكرية الخاصة بالولاية مما يقلل الحاجة لاستجلاب والي عسكري طالما قيادات هذه الوحدات موجودة.
اللواء.. من المدفعية إلى الاستنفار الشعبي
اللواء المتقاعد عبد الرحمن عبد الحميد، المنتمي إلى الدفعة 31 بالكلية الحربية، ذات دفعة قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أمضى سنوات خدمته بين تشكيلات المدفعية والفرق الميدانية، حيث تولى قيادة الفرقة 19 مشاة بمروي في الفترة ما بين 2012 و2014، كما شغل منصب مفوض نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج. إلا أن دوره بعد خروجه من الخدمة النظامية، هو ما يمنح مسيرته بُعداً أكثر إثارة للانتباه وربما للجدل؛ إذ ارتدى منذ أبريل 2023 عباءة نائب رئيس ما يُعرف بـ”الاستنفار والمقاومة الشعبية”، وهي الكتلة التي برزت في المشهد كقوة تعبئة شعبية موازية، مدفوعة بدوافع الحرب وموجهة بدعوات الاستنفار خلف الجيش.
هذا الدور، رغم ما يُراد له أن يُقرأ كإسهام وطني تعبوي، يفتح الباب أمام تساؤلات صامتة عن حدود العلاقة بين المؤسسية العسكرية والإنفلات الشعبي. ويرى البعض أن قيادة شخصية ذات خلفية عسكرية لهذا الحراك الشعبي غير المؤطر بموجب قانون، توحي بإعادة تدوير النفوذ العسكري في قوالب مدنية وشعبوية، وتمنح القادة السابقين امتياز سلطة غير مقننة، تتجاوز الأطر الرسمية وتُستدعى عند الحاجة كأداة ضغط ومناورة، لا كوسيلة انضباط أو حوكمة. ويذهبون إلى أن ظهور اللواء المتقاعد في هذا الموقع يعكس حالة من السيولة بين الدولة واللادولة، بين التعبئة الموجهة والإنفلات المشروع، وهي وضعية لا تخلو من تبعات قد تُمهد لتآكل الحدود بين الحكم والولاء، وبين الإدارة والانقياد، خصوصا في ظل إعادة إنتاج سيطرة المتأسلمين على المشهد.
قراءة في عمق المشهد.. خلفيات سياسية تتخفى خلف المبررات الأمنية
تذهب تحليلات أخرى أبعد من الظاهر، لتلمح إلى أن تعيين عبد الحميد لم يكن فقط استجابة لحاجة أمنية آنية، بل يتعداها إلى كونه خطوة محسوبة في سياق إعادة هندسة السلطة على مستوى الولايات، بما يخدم تموضعًا سياسيًا جديدًا. إذ تأتي هذه الخطوة بعد استقرار نسبي في خدمات الولاية، لا سيما الكهرباء والمياه، فضلًا عن تركيب أجهزة تشويش لحماية السد، ما يقلل من حجة الاحتياج الإداري المُلح، ويضعف من منطق الاستنجاد بقبضة عسكرية.
كما أن الشخصية الجديدة المعينة تحمل انتماءً غير معلن، لكنه معروف إلى تيارات الإسلام السياسي، التي لم تنفصل يومًا عن الجيش، بل ظلت على مدار سنوات شريكًا خفيًا في هندسة السلطة. ولذا فإن تعيين عبد الحميد يُقدَّم في المحافل الشعبية والإعلامية كـ”منقذ عسكري” للولاية، في سيناريو يتكرر ويُعيد إنتاج السيطرة العسكرية من بوابات مختلفة.
الفساد كعامل صامت في القرار
وفي رواية ثالثة، يُنظر إلى القرار باعتباره غطاءً لتحولات داخلية تتعلق بشبهات فساد، بدأت تظهر حول أداء بعض الأجهزة الإدارية، وخصوصاً ما يتصل برسوم الطرق والجبايات. وفي ظل تصاعد هذا “الهمس”، قد يكون القرار محاولة لصرف النظر عن قضايا شائكة عبر إزاحة رأس مدني، وتقديم قائد سابق باعتباره البديل الأنسب لإدارة مرحلة عنوانها الحزم والانضباط.
خاتمة.. ملامح المرحلة تتكشّف
في المحصلة، لا يبدو قرار تعيين اللواء عبد الرحمن عبد الحميد مجرد خطوة إدارية عادية، بل يأتي في سياق مشحون بالتوترات، تعاد فيه صياغة المعادلات الأمنية والسياسية على وقع الحرب، وفي ظل محاولات دؤوبة لإعادة هيكلة السلطة على مستوى الولايات. وبين ظلال المشهد، تتشكّل ملامح جديدة لدور الجنرالات خارج الثكنات، حيث يصبح “التقاعد” مجرد توصيف قانوني، بينما تظل السطوة قائمة بأشكال متعددة، تتقاطع فيها الخنادق مع المكاتب، والرتب مع الولاءات.