
الكثيرون من المهتمين بالشأن السياسي السوداني يلاحظون أن بعض من ممارسة العمل السياسي في الشأن السوداني أصبحت لصيقة بمضامين الكذب والمكر والدهاء، وإن معظم المحللين السياسيين متحذلقين كالحرباء، وإن عملية التحليل السياسي أضحت حرفة للتملق والتسلق لا تستند للعلم ولا الذكاء .
إن السياسية هي إدارة المجتمعات وهي من أعظم المسؤوليات، فالاختلافات بين النوع الإنساني تتطلب عقلا مفكر ومنطق صحيح لإدارة هذا الاختلاف وتحويله إلى طاقة للبناء والتعمير بدلا عن الهدم والتخريب من خلال عملية ترشيد القرارات، وهذه المسؤولية الصعبة لا يمكن أن يَتَحملها إلا العارفون بالسياسة علما وفكرا وممارسة.
ومفهوم علم السياسة
عرّفه العديد من المفكرين والفلاسفة، وعلى سبيل الذكر تعريف إبن أثير بأن “السياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه، وتبعه على هذا التعريف أكثر علماء الفكر ومنهم الجوهري الذي عرف السياسة بأنها تولي شؤون الرعيّة و أمورَ الناس إذا مُلِّكَ أمرهم. وبهذا الوصف السياسة تعني القيام على الشيء بما يصلحه، بمعنى إنها فعلا يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد.
ومن هذا المنطلق أصبحت السياسة علم لارتباطها بمصالح البشر، وأصبح لها اختصاصات تجمع بين العديد من العلوم والمقاربات المعرفية التي توفر شموليةً الفكر، وعمق التحليل واستغراق أبعاد الظاهرة ومتغيراتها .
وبتطور العلوم ومناهجها وأدواتها وتخصصاتها، انتقلت السياسة من مجال الفن والمهارة إلى مجال المعرفة الابستيمولوجية ( نظرية العلم والمعرفة العلمية ) فأضحت اختصاص علمي له معالم أكثر وضوحا ونضوجا . وأضيف له تعريف جديد بأنه علم دراسة الحكومة، ودراسة عملية ممارسة السلطة السياسية ودراسة المؤسسات السياسية والسلوك السياسي . أي أنه العلم الذي يهتم بدراسة آلية الحكم والمؤسسات السياسيّة بكلتا نوعيْها (التشريعيّ والتنفيذيّ) وكذلك التنظيمات غير الرسميّة مثل تنظيمات الرأي العام والأحزاب ، كما أنه يُعنى بدراسة جميع النشاطات السياسيّة للأفراد، كعمليات الاقتراع والتصويت في الانتخابات وغيرها ، من حيث أنه يضطلع بتقديم المقاربات التحليلية والمناهج والأدوات في العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والقانونية إضافة إلى خصوصيته الموضوعية، وبحث السبل الآمنة والممكنة لحل الأزمات بعيدا عن العنف، فغياب السياسة يتسبب في الح-رب والصدام والدمار.
وعلم السياسة علم يحتاج لملكات الإبداع والتحليل والاستنباط والاستشراف والنظر الاستراتيجي، والتأسيس والتجديد بروح الواقعية والموضوعية على مستوى الممارسة والتطبيق سيما في مجال
العلاقات الدولية، وأنظمة الاقتصاد السياسي، وعلم الاجتماع السياسي، والقانون والالتزامات، و الإدارة، والتنظيم السياسي والإداري، والمنظمات الدولية، والأنظمة المالية العامة، والمجتمع المدني، وإدارة الجماعات المحلية، والحكم الراشد، ونظم التشريع، والمؤسسات المالية والنقدية، وأنظمة الحكم (النظم الانتخابية والحزبية) وإدارة الموارد البشرية، وإدارة الجودة الشاملة، والتنمية الإدارية، ورسم السياسة العامة وصنع القرار ، والتنمية الشاملة والمستدامة، ودبلوماسية التفاوض ، و الدراسات الاستراتيجية، وهذا ما يعرف بعلم السياسة المجمل وهو علم يتناول :
– الدولة والمجتمع والسلطة وكيفية تأسيسها وتوزيعها وإدارتها.
– أنواع السلطات (القضائية والتشريعية والتنفيذية) وصلاحياتها والعلاقة بينها.
– النظام العام للحكم ومؤسساته وأدواته.
– النظام السياسي وأشكاله وطرائق تداول السلطة وتوظيفها.
– تنظيم الدولة وسيادتها ومؤسساتها وتنمية المجتمع.
– العلاقات الدولية وأصول الدبلوماسية وإدارة النزاعات الدولية.
– السياسة الخارجية والمنظمات الدولية والتكامل والاندماج.
– التنمية الإدارية والإدارة العامة والمحلية.
– الفكر الاستراتيجي والاستشراف المستقبلي.
1- الاقتصاد السياسي الوطني والدولي وتفاعلاته السياسية.
إن الأزمات السياسية التي ألمت بدولة السودان منذ العام استقلالها تعود لعدم استناد الفقه السياسي لمرجعية الاستراتيجية القائمة على التخصص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ودور النخب العلمية والعقول السياسية والاستراتيجية في التفكير والتخطيط السياسي وفق رؤى منهجية وتصورات واقعية وعلمية، فالتنظير السياسي لحل الأزمات وإدارتها ينطلق من المعاهد البحثية وغرف وعلب التفكير الاستراتيجي ومراكز البحث المتخصصة في الاستشراف والمستقبليات، وجمع (رأسِ مالِ) من الأفكار لإنتاج وهندسة الاستراتيجيات وتطويرها.
# ومما يثير الدهشة أنه في الوقت الذي يحظى فيه هذا التخصص بالاهتمام البالغ لدى الدول الرائدة، والتمكين والتطوير الدائم لأدوات البحث العلمي ، نجد إننا في دولة السودان نحارب هذا العمل ظنا أنه تخصص يثير المشاكل وينمي حاسية “الوعي السياسي” لدى الشعوب ويفتح أقْفال العقول حول مفاهيم الشرعية والمشروعية والمجتمع المدني والتنشئة السياسية والنظام السياسي وأشكاله والديمقراطية التشاركية والتمثيلية، التداول على السلطة، والحكم الديمقراطي، وأنواع السلطة، والحكم الراشد والمساءلة، وغيرها من المفاهيم المركزية التي تذكي جذوة الوعي السياسي في المجتمع، وطبعا هذا النوع من الوعي لا يحبذه المستبد الشغوف باحتكار السلطة لا بناء الدولة.
والسؤال:
بعد كل ما عشناه من تسويف وتجهيل وظلم وقهر ستكون ممارسة النشاط والعمل السياسي في السودان كما كانت عليه بعد نهاية الح-رب العبثية ضد حق الاعتبار الوطني أم ستكون كما ينبغي أن تكون عليه وفقا للمرجعيات الفكرية العلمية؟؟؟؟؟