
محمد حماد عبدالمنعم
#ملف_الهدف_الثقافي
حين أتأمل الأحاديث التي تتداول في المجالس الشعبية ودواوين الدولة، العامة والخاصة، أو أقرأ المنشورات وتعليقاتها في الصحف والصفحات والمنصات الإعلامية، والمدونات الشخصية في وسائل التواصل والإعلام السوداني، وأستمع إلى الأخبار التي تبث في الإذاعة والتلفزيون والهاتف، أشعر كأننا نعيش في حلقة مفرغة! وكأن جميع تلك المعلومات والأخبار تصبها يد واحدة من إناء واحد في آنية كبيرة. إنها لعبة جديدة للصحافة والإعلام الذي يلح علينا بجمله وعباراته، ويكرر على مسامعنا مفرداته ومصطلحاته، حتى تتحول شائعاته وأخطاؤه إلى حقائق! فأصبحنا أسرى البروباغندا الإعلامية، ليس لدينا سوى صحون للاستقبال، وإرهاف للسمع مع بلاغة الطاعة ووسيلة التصديق. يتحدث كل هؤلاء وهم يستدعون مصادر أخبارهم وإعلامهم، وكأن ما تقوله قناة تلفزيونية أو ما تنشره جريدة أو صحيفة بعينها، أو ما يظهر على أي شاشة (كما يظهر على شاشة وسائل التواصل)، قد أصبح حقيقة غير قابلة للنقاش! أو هو بمنزلة يقين لا يعوزه الجدل! وهكذا أصبح قاموسنا مستمدًا من “معجم الإعلام الغربي”، فمن وصفه الغرب بالإرهابي: هو الإرهابي، ومن ادعى الغرب عليه بالديكتاتورية وتآمر عليه: هو الديكتاتور، ومن وسمه الغرب بالمارق: هو المارق، وأصبح الإسقاط المعاصر للحديث في السياسة، وكذلك الفن والأدب وحتى في الرياضة، يستلهم تلك المفردات والأوصاف والألقاب التي صرنا أسرى لها.
والباحث عن أسباب افتقار المصادر السودانية للأنباء لا يتوه كثيرًا في العثور عليها، فنحن أساسًا في السودان نعاني في مجال الإعلام (المرئي والمسموع والمكتوب)، وبعد الضربة شبه القاضية التي أحدثتها وسائل التواصل للإذاعة، غابت الجدية في البحث عن المعلومات والحصول عليها، فضلًا عن نشرها. ولقد أصبحت الصحافة تكتفي بقشور الأخبار التي لا تغني ولا تسمن؛ وطغت الصحافة الصفراء بفضائحها وجرائمها ونماذجها على كل ما عداها؛ وصناع الحدث السوداني هم كتيبة من الخارجين عن القانون، والمتاجرين بالأقوات، ومرتكبي الجرائم، في عصر أصبحت الشهرة فيه محكًا للحكم على القيمة والقيم. لقد تناسلت برامج البودكاست والبث المباشر ومقاطع الفيديو، وبات ضيوف ومنشئو هذه البرامج نجومًا يشاركوننا الحياة في كل آن، فهم حديث الصباح والمساء، وحديث الصحافة والأنباء، ومحور النقاش في كل مجلس، وباتت مهمة هذه البرامج اجترار الحديث يومًا بعد يوم، ويتحول الضيف من نجوم المجتمع والسياسة والفن والرياضة إلى (فقرة) في تلك البرامج! تتلقفه كخبز طازج، ويدور بين الأيدي حتى يأتي حديث آخر يزحزحه ويجرفه إلى مستنقع النسيان، كما تجرف المياه غسيل الطرقات، لتفسح المجال للطاحونة أن تدور… وندور نحن كمتابعين جدد معها، ونحن لا ندرك أنها تطحننا كما تطحن القيم وتدوسنا كما تدهسها.
ويتساءل المثقف السوداني الحريص على تقدم وطنه ورفعة أمته عن الدور الإعلامي والثقافي المفقود للقنوات السودانية، وهو يشاهد قنوات البث التلفزيوني السودانية والعربية، إذ يزداد عجبًا وحيرة حين يرى في أغلبها برامج لا علاقة لها “بالثقافة الرفيعة البناءة” التي تسهم في تكوين المواطن الواعي بقضايا وطنه وأمته، إنما يرى عكس ذلك! إذ تبث برامج هابطة لا هم لها إلا التغريب والتسلية والهزل وهدم القيم السامية للمجتمع، أو المعالجة السطحية الفقيرة “لموضوعات السياسة والاجتماع والتراث والحضارة”. لم يعد “التلفزيون والهاتف” في ظل التغطية الفضائية وربط الكوكب بالشبكة العنكبوتية، وسائل لنقل الأخبار فحسب، بل هما أكثر وسائل الإعلام تأثيرًا في الأفراد والمجتمعات بما يمتلكانه من قدرة على الإقناع والسيطرة، والتمويه، والمغالطة، وقلب الحقائق وإخفائها، ولذا أصبح “التلفزيون والهاتف النقال” وسائل مهمة لتغيير المجتمعات وتوجيه تطورها.
ومع تعدد وظائف التلفزيون وانتشار رقعة الهاتف السيار الشبكية وتحديثات وإصدارات برامجه “وموجات التكنولوجيا ومحاولات رقمنة وعولمة” العالم بأسره كالوظائف والسوق.. إلخ، تأتي التنمية الثقافية في المقدمة، وهي قضية تتطلب العناية بمضمون الرسالة الثقافية وإنتاج برامج ثقافية جيدة. لكن تعامل التلفزيونات ووسائل التواصل العربية والكثير من الإعلاميين والصحفيين العرب ودول العالم الثالث، تعامل قليل ورجعي للغاية وغير مجدٍ! ومع البروباغندا الإعلامية التي أحدثتها تطورات العولمة، فالجماهير والمشاهدون والمتابعون أصبحوا لا يهتمون بالموضوعات والبرامج السياسية والاجتماعية والثقافية الجادة إلا من رحم ربي! بل يميلون أكثر نحو الهزل والفكاهة! وقد أخفقت معظم التلفزيونات ووسائل الإعلام العربية والمحلية وصناع المحتوى والإعلاميين والصحفيين في القيام بدور إيجابي في التنمية الثقافية، والسبب في ذلك:
- ضعف الجهات الفنية المسؤولة عن البرامج
- انعدام الرؤية الثقافية الشاملة
- انعدام التخطيط المبني على أهداف ثقافية واضحة
- غياب الإعداد الجيد لبرامج جذابة ومفيدة وممتعة
- تسلط الأنظمة السياسية على الدولة والشعب وأدلجته
- هدم مؤسسات التربية والتعليم وانتشار المناهج الرديئة
- الضائقة المعيشية والتضييق على المواهب وتحجيم وتهجير العقول في (الإعلام، الصحافة، الفكر، السياسة، الاقتصاد، التعليم.. إلخ)
- الاضطراب الأمني، والشتات البشري نتيجة الحروب وإفرازاتها من (المرض، الجوع، اللجوء، النزوح، التهجير السكاني).
وإنه ليصيبك الضجر والغضب حين تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي أو تشاهد برنامجًا لم يخطط له مسبقًا… ويبلغ التكاسل مداه حين ترى مقدمه حائرًا في تقديم فقراته وترتيب موضوعاته! فيقدم شخصًا ويؤخر آخر جهلًا وغفلة! وترى الذين معه في الإعداد والجوانب الفنية حيارى فيما يطرحه عليهم، وفي النهاية لا تخرج من هذا البرنامج بشيء! فهل هذا من التنمية الثقافية في شيء؟! … أخيرًا، ليس أمام مسؤولي ومثقفي ومفكري وسياسيي وإعلاميي وصحفيي العالم الثالث، ونخص السودان في هذا العصر مع هوجة العولمة والتحولات الكوكبية وذروة الاكتشافات والتقدم التكنولوجي الهائل هذا، سوى التفكير جديًا للخروج من مستنقعات هذه الأزمة، ولن يكون ذلك إلا بوجود استقرار سياسي واجتماعي، ووضع سياسة ثقافية متوازنة واختيار الكفاءات القادرة على إعداد وتقديم برامج سياسية وإعلامية وثقافية متنوعة ومتميزة تجذب المشاهدين وتشد انتباههم وتسهم بحق في تنمية معارفهم وتطور أفكارهم واتجاهاتهم.
# لست_مهزومًا_ما_دمت_تقاوم.