
كتب: الطيب صالح
#ملف_الهدف_الثقافي
لم يكن هؤلاء القوم يبرحون هذه الديار المترامية الأطراف، كانوا قانعين بما قسم الله لهم فيها، وهو كثير، يزرعون النخل في ديار المحس والسكّوت ويزرعون الحنطة والشعير في ديار البديرية والشايقية والركابيين، ويزرعون الموز في كسلا والبرتقال والجوافة في شندي والذرة في أرض البطانة والقطن في أرض الجزيرة ويجنون الصمغ العربي من شجر الهشاب في كردفان يصيدون البقر الوحشي من جبل مرة، والظباء عند تخوم بحر الغزال، يأكلون سمك النيل الأبيض، وسمك البحر الأحمر، يخرجون الذهب من مكامنه في حلايب وفي جبال شنقول، كانوا يتناشدون شعر الدوبيت على الآبار، ويرقصون الدليب في ضوء الأقمار، ويرتلون القرآن في جوف الأسحار ويستخفهم الطرب في مديح المصطفى المختار، كانت البلاد تضج في العشيات بثغاء الشياه ورغاء الإبل وصهيل الخيل، وكان الرجل يمشي من أبو حمد إلى أبو دليق فلا يخشى إلا الله والذئب على غنمه. لكن أنظر إليهم الآن يا أبا تمام، في هذه الصالة الرثة، في هذا المطار القميء، في هذه المدينة المهملة، في هذا الوطن الحبيب اللعين.