
اعتذار واجب لصلاح وللبورتريه أيضاً
حين صعدت المنبر لقراءة قصيدتي في محفل ذكرى القدَّال يوم 28 أغسطس المنصرم، كنت أحمل رسم بورتريه للقدَّال؛ ولكنِّني لم أُشر للرَّسام الذي قام بهذا العمل الجماليِّ المبين. كانت نيَّتي كلُّها صافية، وأنا أصعد حاملاً هذا البورتريه، أن أشير لمن قام بتشكيله الحاذق. غير أنِّي ولسبب يتعلَّق بالصَّرامة اللَّازمة أو ربَّما بالبلادة المركَّبة أو ربَّما بسبب الارتباك الدَّائم الذي يعتريني من قراءة الشِّعر لجمهور ما، أو ربَّما بسبب نيَّتي الحسنة في ترك المساحة الدَّاخليَّة وحدها للشِّعر في مثل مشهد كهذا من حياة العلاقة مع جمهور لا أعرفه ولا يعرفني، وربَّما تضيق عليه الذَّاكرة وتتشوَّش في مثل هذه المِنصَّات المنبريَّة المفتوحة.
ما أودُّ أقوله، إنَّ صاحب البورتريه الذي صعدتُ به إلى المنبر، كان هو ابني “صلُّوحي”، وهو صديقي “صلاح ولدي” في ذات الرُّوح، وهو في الحين ذاته الفنَّان صلاح بابكر، وإن شاء هو _ صلاح بابكر الوسيلة.
جلس ليومين كاملين يرسم ما يخصُّه من قدَّاله الذي يرى ويحس. كان ذلك في ركن قصيٍّ من البيت، حيث لا هواء ولا ضوءاً كافياً غير ضوء استبصاره الدَّاخلي. في اليوم الثَّاني أحسَّ بالإعياء وربَّما المرض وهو على وشك الانتهاء من وضع الملامح الأخيرة للبورتريه. استراح قليلاً، أخذ حبَّتي بندول وقام لمحبَّته مع القدَّال حتَّى القُبلة الأولى لوجه قدَّاله المرسوم أمامه بمحبَّة.
في الموكب الذي دعت له لجان مقاومة الخرطوم، بالتنسيق مع لجنة الاحتفال بالقدَّال. كنَّا، أنا وصلاح، قد سبقنا الكثيرين في الحضور إلى ساحة الشُّهداء بالخرطوم، حيث سيتحرَّك الموكب. كان صلاح يحمل صورة القدَّال بحذر شديد عل (فووم) بداخل كيس بلاستيكي. جلسنا على ظلِّ شجرة خلف ساحة الشُّهداء وطلبنا كوبي شاي شابٍّ في انتظار تجمُّع الموكب. كان صلاح منشغلاً باللَّعب على موبايله الخاص، غير أنِّي كنت ألاحظ فيه التَّلاعب عن لحظته الخاصَّة مع نفسه وهو الذي يحمل بين رجليه (في تلك اللَّحظة) صورة مطمئنَّة لأن سيحملها فنَّانُها بين يديه في موكب انخرط فيه سلفاً بقدَر جميل، أيَّام الثَّورة الأولى. وهاهو يجدِّد عهدَه للمواكب؛ ولكن، بيدين تحملانِ صورةً لنفسه ونفسها في جمالٍ أكيدٍ موطَّدٍ ووطيد.
تحرَّك الموكب بالحقيقيِّين من شباب التَّعب الحي. كان صلاح يرفع صورة القدَّال الذي رسمها في يومين من عَرق روحه، على مقدِّمة وجهه ومقدِّمة الموكب. كان وجه القدَّال هو وجهه وهو يسير مع الموكب من ساحة الشُّهداء إلى قاعة الصَّداقة حيث أخذ اللَّافتاتِ المستهبلون المتعجِّلون في حياتنا؛ وكأنَّهم جاءوا بعرق يخرُّ مع الموكب؛ في مشهد شبيه بالذي يحدث في تشكيل حكومتنا المنافق والنَّافق عن كلِّ عِرْق شعبيٍّ نابض..
ضحك صلاح ضحكته التي يعرفها قلبي جيِّداً، وهو يسمح لأحدٍ ما، من المتلهِّفين لأخذ الصُّور، بأخذ بورتريه القدَّال من يده، دون استئذان، ثمَّ يلتقط به صورة عجلى مع آخرين. حين رأيت المشهد ضحكتُ بدوري، على إثر ابتسامات صلاح الودودة، من كوميديا اللَّحظة التي أفهمها جيِّداً وجيِّدا.
سرَّه، كما سرَّني للغاية، أن يظهر بورتريه صلاح مرفوعاً، أثناء الموكب، في الأغنية التي أنجزها فنَّاننا العظيم أبو عركي تعظيماً للقدَّال ولخصوبته في حياة الجماعة.
أنا أعتذر إليك يا صديقي، غاية الاعتذار، عن عدم الإشارة ليدك الفنَّانة، لروحك الجميلة التي أنجزت البورتريه. غير أنَّي أعرف، بيقين كامل، أنَّ لحظات التَّاريخ القادمة، ستشير لك وللبورتريه وللقدَّال ولكلِّ فنَّاني هذا السُّودان، القادمين _ببطء جماليٍّ مرسَّخ _ وفي أرواحهم موجات خضراء لتخصيب أفق الجمال في تربة مخصَّبة سلفاً بإنسانها الإبداعيِّ الخصيب.
___