بقلم: عبد الله خيار
كان صديقي مولانا فيصل مسلم يقول: “هناك فرق بين النسيان وبين أن تغيب الوجوه من الذاكرة، أو تسقط منها. وبالفعل، كثيرون منا لا ينسون الفنان الجميل إبراهيم موسى أبّا، وإن غاب عن المشهد، فهو صاحب الصوت العذب والتطريب العالي. مجرد ذكر اسمه يكفي لتستعيد ذاكرتنا الهشة أغنية “عينيّ عليك باردة يا السمحة يا الواردة”.
إبراهيم موسى أبّا من مواليد مدينة الأبيض. بداية ظهوره كانت من خلال فرقة فنون كردفان، التي كانت تتحف المستمعين بروائعها عبر برنامج “رسائل الأقاليم” و”رسالة كردفان” في الإذاعة السودانية. تابعت مسيرته الفنية منذ بدايات السبعينيات، حين جاء إلى الخرطوم مع ثلاثة من رفاقه، كل منهم يحمل لونًا جديدًا ومختلفًا عمّا كان سائدًا آنذاك. جاء عبد القادر سالم مرددًا “اللوري حل بي دلاني في الودي”، وجاء عبد الرحمن عبدالله متسائلًا “شقيش قولي مروح قبال صباحنا يبوح”، وصديق عباس شاديًا “مطر الرشاش الرشا فوق دار كردفان الهشة”، أما إبراهيم موسى أبّا فهتف بشجن: “ما دوامة الله هوى الدنيا ما دوامة”. انتشرت هذه الأغنيات في وقت واحد تقريبًا عبر إذاعة أم درمان، ووجدت قبولًا واسعًا لدى المستمعين، واستطاع هؤلاء الفنانون القادمون من غرب السودان أن يقدّموا ثورة فنية حقيقية بلونيتهم الجديدة.
ما كان يميز إبراهيم موسى أبّا هو عذوبة صوته وتطريبه، إلى جانب براعته في العزف على آلة العود. كما يُعد من رواد تجديد التراث، حيث قدّم أغنيات كردفانية تراثية بأسلوب معاصر، وقدّم نماذج موسيقية جمعت بين أنصاف التون المنتشر في كردفان، وبين السلم الخماسي السائد في معظم مدن السودان. هذه العبقرية صنع منها لونًا فنيًا خاصًا ظهر بوضوح في أغنياته مثل: “الشتيلة الرايقة يا حليلة”، “البنية زعلانة مالك”، “عزالتوب”، “القندلة”، “شوف جمال السودان في بلدنا كردفان”، وغيرها من الأعمال الخالدة.
الفنان إبراهيم موسى أبّا مدرسة فنية قائمة بذاتها في الأداء والتطريب. أعماله تستحق أن تُدرّس في المعاهد الموسيقية. وأنا شخصيًا من محبي هذه المدرسة، لأن أبّا كان أول من لفت نظري إلى جمال المزج بين أنصاف النغمات والسلم الخماسي، ثم عرفت لاحقًا أن الفنان أحمد الجابري كان من أوائل من أسسوا لهذا الاتجاه، بل إن أبّا نفسه كان متأثرًا في بداياته بالجابري، وسمعته يؤدي أغنية “رسائل” بثقة الفنان الواعي بأدواته. قدّم أبّا ورفاقه إيقاعات لم تكن مألوفة لدى جمهور الوسط، مثل إيقاع المردوم والجراري، وهي دلالة على ثراء كردفان وتراثها الموسيقي. وقد بلغ تأثير المردوم أن قام الملحن عمر الشاعر بتلحين “أسير حسنك يا غالي” على هذا الإيقاع، مستخدمًا أنصاف النغمات بروح قريبة من موسيقى كردفان.
رحل إبراهيم موسى أبّا في منتصف التسعينيات. ورغم ثرائه الفني وتجربته الطويلة، لم ينل الاهتمام الإعلامي، الذي يستحقه، ولم توثق أعماله كما ينبغي. لقد كان إبراهيم موسى أبّا جزءًا من وجداننا الجمعي، ومن ذاكرة الفن السوداني، التي لا ينبغي أن تُهمل. نحن لا نقف عند سيرته لمجرد الحنين، بل لأن تجربته تحمل قيمة فنية حقيقية تستحق أن تُقرأ وتُوثّق وتُدرّس. فالفنانون الكبار لا يغيبون بالموت، بل يظلون في أصواتنا وأحلامنا وذاكرتنا. رحم الله إبراهيم موسى أبّا رحمة واسعة، وجعل صوته العذب شافعًا له، وأبقى أثره حيًّا في القلوب، التي أحبّته وفي كل أذن تعرف معنى الجمال.

Leave a Reply