أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
مقدمة: (من حـ.ـرب المدن إلى حـ.ـرب المنصّات): في العقود الماضية كان الشارع العربي يشتعل بالحجارة والهتافات، وكانت المـ.ـقاومة تُخاض بالبارود، وبنصوص المتنبي ومظفر النواب. أمّا اليوم، فقد انتقلت الثورة إلى شاشة الهاتف: ساحة الحـ.ـرب أصبحت شاشة رأسية بحجم 6 إنش، وميدانها تيك توك. في عالمٍ تُعاد تشكيل خرائطه عبر الصور والبيانات، صار الشاب العربي يصنع سـ. ـلاحه بنفسه:
– خندق = هاتف ذكي
– ذخـ.ـيرة = مقطع مدته 60 ثانية
– معـ.ـركة = حرب سرديات عالمية
هكذا تحوّلت المنصة الأكثر خفةً إلى فضاءٍ لصـ.ـراع وجودي، تتنافس فيه حقيقة الفلـ.ـسطيني مع بروباغندا الاحتلال الصهيوني، وحقيقة الأحوازي مع بروباغندا الاحـ.ـتلال الفارسي الشعوبي، وصوت السودان الثائر مع آلة القمـ.ـع، وصرخة المرأة العربية من إفرازات الحـ.ـروب والكوارث.
هكذا تحوّلت المنصة الأكثر خفةً إلى فضاءٍ لصـ.ـراع وجودي. لكن هذه المعركة الرقمية تحمل في طياتها تناقضاتها الخاصة: فساحة التحرير نفسها هي سوقٌ تجاري، والسـ.ـلاح المجاني ذو ثمن خفي، والانتصار في حـ.ـرب المشاهدات لا يضمن الانتصار في حـ.ـرب الإرادات. هذه المقالة تحاول تشريح هذه المعجزة التناقضية: كيف يحوّل الشباب العربي أداة تسلية عالمية إلى خندق مقاومة، وما الذي يكسبونه ويخسرونه في هذه الحـ.ـرب الجديدة؟
أولاً: الإحصاءات الصادمة – ( الأرقام التي لا تكذب): (استناداً إلى DataReportal 2023–2024 و TikTok Insights:
1. الفئة العمرية:
• 72%من مستخدمي تيك توك عربياً تتراوح أعمارهم بين 16–34 عاماً
• 41% منهم ذكور، 59% إناث — أي أن النساء فاعلات بقوة في المقاومة الرقمية.
2. الزمن المستهلك: يقضي المستخدم العربي 95–110 دقيقة يومياً على التطبيق (الأعلى عالمياً بعد جنوب شرق آسيا).
3. عدد المستخدمين:
أ. تتصدر مصر الوطن العربي بأكثر من 50 مليون مستخدم.
ب. تليها السعودية بنحو 30 مليون مستخدم— ضمن أكبر خمس أسواق عالمية.
4. المحتوى السياسي والاجتماعي:
أ. تشير دراسة Harvard Kennedy School 2023 إلى أن 58% من محتوى FYP العربي يحمل رسائل سياسية مباشرة أو غير مباشرة.
ب. ووفق Pew Research 2024: كل دقيقتين يظهر مقطع عربي جديد حول فلسـ.ـطين في الوسوم العالمية.
هذه الأرقام لا تصف استخداماً ترفيهياً فقط، بل ثورة سرديات تنتجها الأجيال الجديدة بوتيرة تتجاوز قدرة المؤسسات التقليدية على المواجهة.
ثانياً: الأسـ.ـلحة الجديدة في الحـ.ـرب القديمة:
1. سـ.ـلاح التكثيف اللغوي: تحوّلت الجملة القصيرة إلى بديل للقصيدة الملحمية.
أ. الفلسـ.ـطيني يستخدم الإيقاع المتكرر والصور الفجائية.
ب. المصري يعيد توظيف الأمثال الشعبية في شكل ميمات سياسية.
ت. السوداني يمزج بين الإيقاع التراثي والرسالة الثورية.
إنها بلاغة الزمن السريع: معنى مكثف + صورة مشحونة + موسيقى تراثية = مقطع مقاوم.
2. السخرية كمنظومة معرفية: السخرية لم تعد (تسلية)، بل تفكيك للسلطة.
أ. تحويل السياسي إلى شخصية كاريكاتورية
ب. تحويل خطاب الاستعمار إلى (تحدّي) مضحك
ت. تفريغ لغة القـ.ـمع من مهابتها عبر الضحك الجماعي
هنا تصبح السخرية أداة تحليل سياسي لا تقل عمقاً عن المقال الأكاديمي.
3. سـ.ـلاح العاطفة الجماعية: تيك توك يحوّل العاطفة الفردية إلى عاطفة شعب:
أ. دمعة غـ.ـزّي = تعاطف مليون مشاهد خلال دقائق
ب. نكتة سودانية عن القـ.ـهر = مشاركة جماعية في الرفض
ت. أغنية لبنت لبنانية عن الحرية = موجة تضامن عابرة للحدود
هذا التفاعل العاطفي هو وقود المقاومة الرقمية.
ثالثاً: التشريح السيميائي للمقاومة الرقمية:
مثال: مقطع فلـ.ـسطيني نموذجي
• 0–10 ثوانٍ: طفل + موسيقى تراثية
• 10–30: صور الاستيطان الصـ.ـهيوني
• 30–45: جملة مفصلية: (هذا ليس صراعاً… هذا احتلال)
• 45–60: دعوة للفعل: #FreePalestine
التحليل السيميائي: هذا المقطع يدمج:
أ. الرمز (الطفل)
ب. الذاكرة (الأغنية)
ت. الحقيقة (الاستيطان الصهـ.ـيوني)
ث. الخطاب السياسي (النص)
ج. التعبئة (الهاشتاق)
إنه ليس فيديو، إنه بيان سياسي بصيغة قصيرة Short Manifesto.
رابعاً: نظرية المقاومة السائلة – Liquid Resistance: أطرح هذا المفهوم لوصف شكل جديد من المـ.ـقاومة الرقمية:
خصائصها:
أ. مرنة: تنتقل بين الجد والهزل دون انفصال.
ب. عابرة للحدود: لا تحتاج إلى حزب أو تنظيم.
ت. تراكمية: كل مقطع يبني على سابقه.
ث. موزّعة: بلا قائد مركزي ولا غرفة عمليات.
نماذج عربية
أ. النموذج المصري: مـ.ـقاومة عبر الرقص والفكاهة السياسية.
ب. النموذج السوداني: مـ.ـقاومة عبر الإيقاعات التراثية والشعر الثوري.
ت. النموذج الفلسـ.ـطيني: صمود يومي يوثّق الجـ.ـريمة لحظة بلحظة.
هذه المـ.ـقاومة السائلة تخلق وعياً جماعياً بلا مركز، وحركة بلا قيادة، وأثراً بلا تنظيم.
لكن هذه السيولة ذات حدّين: إنها تعطي مرونة وتُصعّب المطاردة، لكنها قد تتحول إلى مقـ.ـاومة سريعة الزوال تذوب كما تظهر. التحدي الذي يواجه هذا الشكل الجديد هو كيف يحوّل الطاقة العابرة إلى بنى مـ.ـقاومة متجذرة، وكيف يتحول من ردّة فعل رقمية إلى فعل تغييري مستدام. هنا تبرز الحاجة إلى جسور بين المـ.ـقاومة السائلة على المنصات والمـ.ـقاومة الصلبة على الأرض.
خامساً: اللاوعي الجمعي الرقمي: تيك توك العربي أصبح أرشيفاً حيّاً للحظات المفصلية:
1. الأرشيف الرقمي:
• 2.3 مليون مقطع عن ثورة السودان (2020–2023)
• 4.7 مليون مقطع عن انتفاضة القـ.ـدس 2021
• 6.1 مليون مقطع عن نضالات المرأة العربية (UN Women 2023)
2. اللغة السرية:
• الهاشتاق = شيفرة
• العلم = هوية
• الميم = رسالة سياسية مضغوطة
• الأغنية = رمز مـ.ـقاوم
هكذا يتشكّل لاوعي عربي جديد يخزن الأحداث بشكل فوري ولا مركزي.
سادساً: الحرب المضادة – كيف تواجه الأنظمة المحتوى المـ.ـقاوم؟
1. تكتيكات الأنظمة:
أ. الحجب والحظر
ب. المراقبة عبر الذكاء الاصطناعي
ت. إنشاء جيوش إلكترونية
ث. توظيف القانون لتجريم النشطاء
2. معدلات الفشل (بحسب Access Now 2023–2024)
• 73% من عمليات الحظر تتجاوز بـ VPN
• 82% من الشباب ينجحون في تفادي الرقابة
• حسابات التضليل الرسمية لا تتجاوز فعاليتها 14%
السبب بسيط: الدولة تعمل بمنطق القرن العشرين، بينما الشباب يتحركون بمنطق القرن الحادي والعشرين.
سابعاً: المخاطر والحدود – الجانب المظلم للمـ.ـقاومة الرقمية: رغم القوة التحويلية لهذه الظاهرة، لا يمكن قراءتها كقصة انتصار أحادية؛ فلها ظلالها الخفيفة وحساباتها المعقدة:
أ. فخاخ المنصة التجارية:
• تسليع القضية: تحوّل المقـ.ـاومة إلى (تريند) يستهلك ثم يُنسى؛ فالخوارزمية لا تميّز بين مقطع ترفيهي وآخر ثوري، بل تبحث عما يثير التفاعل بغض النظر عن القيمة.
• استنزاف الطاقة الثورية: إغراق المستخدم بكمّ هائل من المحتوى قد يولّد (شللاً بالخيار) أو (إرهاق التعاطف)، حيث تتحول المعاناة إلى مادة يومية معتادة.
ب. مخاطر الأمن الرقمي والاستهداف:
• التعقّب الذكي: تتطور أدولة المراقبة من الحجب الخام إلى تحليل المشاعر وتحديد الناشطين عبر الذكاء الاصطناعي.
• الاختراق المضاد: ظهور حسابات (زائفة) تتبنّى الخطاب المقاوم لتحريفه من الداخل أو تجميع البيانات الشخصية للناشطين.
• العنف الرقمي: خاصة ضد النساء الناشطات، حيث تتحول الساحة الرقمية إلى فضاء للتشهير والتـ.ـحريض والتـ.ـهديد الجنـ.ـسي.
ت. التحديات الداخلية للحركة:
• اللامركزية كضعف: غياب التنسيق قد يؤدي إلى تضارب الروايات أو تناقض المطالب.
• سطوة التفاعل على المضمون: سعي الخوارزمية للمحتوى (المثير) قد يكافئ التهييج العاطفي على التحليل المتزن.
• انفصال الواقعي عن الرقمي: خطر نشوء (طبقة نشطاء كرنفاليين) ينتجون محتوى ثورياً من دون انخراط حقيقي في التنظيم الميداني.
سابعاً : الفلسفة الوجودية للمقاومة الرقمية: هذه المقاومة ليست تقنية… إنها تحول وجودي:
1. إعادة تعريف الذات: الشاب العربي ليس متلقيًا، بل مُنتِج للسرد.
2. استعادة الزمان والمكان:
أ. الزمان: تحويل اللحظة العابرة إلى حدث تاريخي.
ب. المكان: تحويل الغرفة إلى ساحة احتجاج عالمي.
3. ثورة الوجود
كل لايك = إعلان وجود
كل مشاركة = رفض للمحو
كل تعليق = مقاومة
إنها مقاومة تُمارس في اللحظة نفسها التي تُقمع فيها الكلمة في الواقع.
مع هذا التحول الوجودي، يطفو سؤال جوهري: هل يصنع الـ(لايك) وعياً أم يخلق وهم المشاركة؟ هل تحرير الهوية الرقمية يُترجم إلى تحرير للجسد في السجن أو الشارع؟ الفلسفة الوجودية للمقاومة الرقمية تظل ناقصة إذا لم تُختبر بقدرتها على اختراق الجدران المادية للسلطة، لا فقط اختراق شاشات الهواتف.
ثامناً: المستقبل – ما بعد التيك توك:
1. توقعات:
• بحلول 2025: 35% من التعبئة السياسية العربية ستكون رقمية بالكامل
• 2027: بدائل عربية وإقليمية لمنصات الفيديو القصير
• 2030: تخصص (المقاومة الرقمية) يُدرَّس في الجامعات
2. التحديات
• تسليع المقاومة
• إرهاق النشطاء
• تشتت الحركات بسبب تعدد المنصات
لكن الاتجاه العام ثابت: الجيل القادم سيقاوم بالبيانات كما قاوم الجيل السابق بالحجارة.
الخاتمة: (من الرقصة إلى الثورة):
“من الرقصة إلى الثورة مسافة قد يقصرها مقطع ولا تقطعها كل المقاطع. الذي يرقص ليهزأ بالسلطة يمارس مقاومة، ولكن الذي يحوّل هذه الرقصة إلى تنظيم يمارس ثورة. الذي يوثّق القـ.ـمع بصوت مرتجف يصنع تاريخاً، ولكن الذي يحمي هذا التوثيق من التشويه ويوصله إلى محاكم العدالة الدولية يكمل الحلقة.
التيك توك أعطانا لغة جديدة للمقاومة، لكنه لم يعطنا بعد قواعد النحو التي تحول الكلمات إلى خطاب متماسك، ولا المعجم الذي يترجم المشاعر إلى برنامج سياسي. كما يقول المفكر الفرنسي بول فيريللو: (عندما تصبح السرعة مطلقة، تتحول القوة إلى ضعف.) قد تكون سرعتنا الرقمية هي قوتنا الجديدة، ولكن التحكم في إيقاعها وتحويل الزخم العابر إلى اتجاه تاريخي هو التحدي الأكبر.
الشباب العربي اليوم يمزّقون بسكين الرقمي ستار السرديات الرسمية، لكن المطلوب غداً هو أن ينسجوا على نفس المنوال سرديتهم البديلة – لا قصيرة كالفيديو، بل طويلة كتاريخ شعب>
المصادر الدقيقة والمحدّثة
1. DataReportal – Digital 2023 & 2024 Arab Region
2. Harvard Kennedy School – Misinformation & Digital Activism in MENA
3. Access Now – Freedom of the Internet in MENA 2023–2024
4. UNESCO – Digital Youth & Political Participation in Arab States
5. Pew Research Center – Global Social Media Trends 2024
6. TikTok Research & Transparency Reports 2023–2024
7. UN Women – Digital Resistance & Women’s Movements 2023

Leave a Reply