كنوز محبّة

صحيفة الهدف

لكنَّ نكاءَ القرحِ بالقرحِ أوْجعُ:
كيف يمكنُ أنْ توازنَ بين العشق والحرب؟

كنتُ كتبتُ رثاءً لصديقنا د. شمس الدّين علي نورين، الذي انتقلَ في أبوروف، أمدرمان، أثناء الحرب، وأثناء التّدوين والقصف العنيف. لكنّني لم أستطبِ المقالة، فترتكتها. لم يمُر وقتٌ طويلٌ حتّى رحل عماد عركي، في جهات الجمّوعيّة. لا شيء يجبُ أنْ يخفّف الوجع. ذلك أنَّ آخر مرّةٍ لقيتُ فيها عماد عركي، حين جاء برفقة صديقنا اللّطيف، النّسمة، الرّقيق عبد اللّطيف مجتبى، لنذهبَ ثلاثتنا إلى منزل زوجة د. شمس الدّين، في “ود اللّدر”، نتغدّى بالملوخيّة العجيبة. طلب عماد عركي أنْ يصلّي العصر، قبل أنْ نذهب. أثناء صلاته، ناداني عبد اللّطيف مجتبى، وأسرَّ لي كلاماً. كان عماد عركي يُشبهُ العبّاد الزاهدين المنقطعين عن الدّنيا. ثمَّ ذهبنا. تلك آخر “شوفة” لي لعماد. لكنَّ الوجعَ يأبى أنْ يرحلَ. يذهبُ ياسر عوض.
يا إلهى..
“وأنتَ تكبّلُني في دموعي وصمتي…
وتسكبُني في تُرابي.. وتقسو فتملؤني من عذابي.”
والفيتوري أعرفُ من يقولُ الحزن والمواجد والمناجيات، شعراً. فقد بزَّ القوم، على الرّغم من أنّهم لم يستبقوا في مضمار، بعبارة الإمام علي بن أبي طالب، عليه السّلام.
شايف كيف؟
كيف يمكنُكَ أنْ تكتبَ وجعاً متراكباً، طبقاً عن طّبق؟
شمس الدّين، عماد عركي، ياسر عوض، ما الذي يجمعُهم، غير أنّهم أصدقاء؟
ثمّة لطفٌ عميق. صدقٌ، وروحٌ هفهافة. الثلاثة ينتمون إلى حزب البعث العربيٓ. والثلاثة درسوا في العراق. فهل وجدتَ بعثيّاً غير لطيف؟ نعم. كان هناك بعثيّون في بابنوسة، لم يكونوا لطيفين. لم أستطعْ أنْ أبني معهم جسراً يوصلُنا إلى بعضنا. لاحقاً، استلطفتُ بعضهم. لكنْ مُذ بابنوسة، لم أجدْ إلّا البعثيين اللّطفاء.
في مدرسة أم روابة الثّانويّة بنين، درّسنا مادة الأدب العربيّ، أستاذٌ غاية في اللّطف، إسمه الحاج أبوبكر. كان بعثيّاً. صادَقنا، عاملنا كما لو كنّا غير طلّابه. يعيرُنا الكتب، يناقشنا في صالون بيتهم. يعزمُنا أيّام الجُمع لنتغدّى معه، فقد كنّا قادمين من مناطق شتّى من كُردفان، ونسكنُ في الدّاخليّة. هو الذي غيّر رؤيتي وتصنيفي للبعثيين، خاصّةً أولئكَ الذين درسوا في العراق.
ثمَّ التقيتُ باللّطيفين في الخرطوم. ابتداءً من محمّد الرّبيع محمّد صالح. فقد كان هو أوّل من عرّفني إلى ياسر عوض وعماد عركي، تسعينيات القرن الماضي. بيد أنّهم كانوا “معارف” بعيدين. جاء ياسر عوض إلى قناة النّيل الأزرق، منتجاً، وكنتُ فى تلفزيون السُّودان، فتقاربنا، على حذر.
شايف كيف؟
عرفتُ د. شمس الدّين عن طريق عبد اللّطيف مجتبى، ومنتدى أبناء أمدرمان. ثمَّ مجتبى يقرّبكَ إلى محمّد الحاج. ومحمّد الحاج كونٌ هائلٌ من اللّطف والسّماحة وحسنِ الخُلُق. عادةً ما كان يجمعُنا بيت محمّد الحاج في آخر الثّورات. مرّةً في إفطارٍ رمضاني جاء لفيفٌ من البعثيين اللّطفاء. تلك أوّل وآخر مرّةٍ ألتقي فيها بالتّشكيلي عصام قيسان، على الرّغم من أنّنى سمعتُ به. كان ونّاساً، حكّاءً، ضحّاكاً.
منذ 2017م، توطّدتْ علاقتي بياسر عوض، حتّى لا يكادُ يمرُّ أسبوعٌ دون أنْ نلتقي. ثمّ صرنا نلتقي يوميّاً. عرّفني إلى عوض الله قاسم. وذاك شخصٌ آخر. نسخةٌ نّادرةٌ من الحكمة والتواضع. كنّا نجيء إليه، ياسر عوض وأنا، في زحام المحطّة الوسطى في بحري. نجلسُ ساعاتٍ عند بائعة شاي، في وسط موقف ناس أمدرمان. الخلق مستعجلٌ عائدٌ إلى منازله، نتآنسُ حتّى تخفت الأرجل. عادةً ينهوسُ البعثيّون بالبلاد؛ السياسة، الثّورة، التغيير، وقد كانت تخطو خطواتها باتّجاه ديسمبر. وطنيّون يهمّهم مستقبل السُّودان. لكنْ من الأفضل لك، أنْ تجرجرهم إلى مناطق أكثر إنسانيّة، أرحب أفقاً، فالعاقل يعرفُ أنْ السُّودان بلدٌ منكوبٌ منذ أنْ خلقه الله تعالى. فهو البلدُ الوحيدُ الذي بقيّ على حاله، كما تركه أبونا آدم، عليه السّلام، حسبما كان يحلو للرّاحل د. جون قرنق أنْ يقول.
شايف كيف؟
ياسر عوض كائنٌ جماليّ.
والرّجالُ الجماليّون، كما يسمّيهم السّر السيّد، فضاءاتُهم رحبة. لا يحسنون الاستقرار. والاستقرارُ خطيئة، كما يقول الرّوائي اللّيبي إبراهيم الكوني. بعد انقلاب 25 أكتوبر، دخل ياسر عوض المعتقل، فقد كان مديراً لهيئة إذاعة وتلفزيون ولاية الخرطوم، بعد مجيء الحكومة المدنيّة. تعرّف على أستاذة تعمل في قطر، الدّوحة. فقد كان منفصلاً منذ أكثر من 10 سنوات، وأباً لولدين. تزوّجا وسافرا إلى قطر. كان يحادثنُي من هناك. وكنتُ قد ذهبتُ – خلال الحرب – إلى عواصم إفريقيّة وآسيويّة، فأنا لا أحسن الاستقرار، كما يبدو.
انقطعنا فترة، قرأتُ منشوراً لمجدي علي يدعو له بالشّفاء. سألتُ مجدي علي: “ياسر مالو؟”، فأجابني.
ومجدي علي كوكبٌ لطيف. ناصعٌ وحميم.
غلبني أنْ أتّصل بياسر عوض.
يجبُ على الرّجل أنْ يتحمّل أوجاعه.
وأوجاعي مجرّاتٌ وسُدُمٌ.
لكن، ها أنأ ذا أبكيهم جميعاً، علناً.
فالحبُّ لا يكون حبّاً إنْ لم نبُحْ به.
والدّمع يصيرُ دمعاً حين تسكبُه، فقط.
سلامٌ عليهم في الخالدين.
ولا نقبّلُ فيهم عزاءً، كما قال مصطفى سّند، وهو يرثي محمّد المهدي المجذوب.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.