راسم منصور
إلى صديقي السوداني ياسر عوض، الذي ترك ضحكته في شوارع الوزيرية دليل سذاجة هذا العالم لا أدري مَن القائل: “كَبِرنا يا أمي إلى الحد الذي أصبح لدينا فيه أصدقاء ميتون!” في بساتين الوزيرية، التي تَعُجّ عطورًا لفَتَيات جميلات وبقايا بيوت أرستقراطية تَتَآكل، عرفت ياسر عوض. في كلية الفنون الجميلة، ومع بدايات عقد اسمه عقد “الجمر والنار”، ألا وهو عقد التسعينيات من القرن المنصرم، عرفتُه من ضَحْكَته، وجمعتنا رِفْقَة المسرح، ورحلة البحث عن ذواتنا التي كانت تَتَشَكَّل. قضينا سنتين في عرض مسرحي واحد، ما بين التمارين والعروض. كنا صباحًا في الكلية كأي مُتَمَرِّدين على قوانين النفي القسري لحرية الأرواح التي لا تقبل إلا أن تكون متمردة. كنا نضحك من القلب، لأننا كنا على يقين أن خسائرنا القادمة ستكون فواتيرها أكبر وأكبر. ياسر عوض صديق الجميع، يضحك للجميع بلا قانون للضحك؛ هو أَوْجَدَ قانونه الخاص، فأصبحت ضحكته أيقونة ما زال صداها يرن في آذاننا نحن الذين عرفناه. كَبِرنا قليلًا، وأنهينا سنواتنا في الجامعة ونحن نسير على أسلاك شائكة، تركت لنا جروحًا لا تقبل أن تندمل. غادر هو إلى السودان، ونحن واجهنا مصيرًا آخر. ضاعت أعمارنا بين صوت صاروخ طائش وسيارة مفخخة، سحقتنا الأيديولوجيات المتناحرة، قتلت فينا فرحة أن نكون بشرًا أسوياء. انقطع ياسر عنا سنوات، ولكن يبدو أن للضحك سرًّا آخر، وهو أنه عندما تضحك مع شخص نقي من القلب، فلا بد لك أن تتواصل معه إلى الأبد. عام ٢٠١٢، وبعد انقطاع ١٤ عامًا، عاد التواصل بيننا، حتى الأيام الأخيرة لحياة “طائر الخرطوم الجميل” ياسر عوض. في شهر أكتوبر الماضي، كنت قد أخبرته أنه بمجرد أن تصبح صحته أفضل، سيكون بيننا في بغداد مرة أخرى. حدثني عن المرض، لكني لم أصدق ذلك. اتصلت بصديقة عزيزة في الدوحة وطلبت منها أن تتواصل معه وأن تكون بقربه، ولم تقصر هي وأسرتها الكريمة. ولكن يبدو أن القدر اتخذ قراره بإسكات ضحكة ياسر إلى الأبد. ياسر، ابن السودان وابن النيل الفنان الجميل، ياسر ابن شوارعنا التي لا تُنسى، ياسر صديقنا الذي مات وهو يتمنى أن يعود إلى بغداد ذات يوم. أُعَزِّي به متأخرًا، لأني ما زلت أعتقد أن الموت هو حيلة ذكية لكي يجعلنا نتذكر أننا كَبِرنا بما يكفي. سلامٌ لروحك، ياسر عوض، ورحمة من الله الذي هو واسع وكبير لا تسعه السماوات والأرض، ولكنه يوجد في قلب إنسان، وأنت أجمل قلب لإنسان.
-
فنان مسرحي من العراق
#ملف_الهدف_الثقافي #ياسر_عوض #راسم_منصور #بغداد #الوزيرية #رثاء #ضحكة_لا_تنطفئ #فنان_مسرحي

Leave a Reply