كتابات في دفاتر الثورة..عثمان إدريس أبو راس

كتابات في دفاتر الثورة..
عثمان إدريس أبو راس

بقلم: الرشيد حسب الرسول

بحكم إعجابي الشديد بشخصيته التي تجمع كل صفات القائد، حيث يخترقك الإحساس بالرهبة الناتجة عن صرامة ملامحه عند النظر إليه للوهلة الأولى، لكنك عندما تتعرف عليه عن قرب تجد أن هذه الملامح الحادة تخفي خلفها الكثير من المشاعر الإنسانية، لا يجيد الأسهاب في حديثه لذلك كلماته دوما ما تجدها محفورة في الأذهان، فهو سياسي لا يغلف حديثه بالمناورات والمجاملات، يمتلك قدرة على تحليل الأحداث مستند في ذلك على منهج علمي جدلي تاريخي يساعده في قراءة الواقع وتعقيداته بصورة واضحة.
لم يمنعه موقعه القيادي في حزب امتدت رقعة تواجده الجغرافي من مراكش الى شواطئ البحرين، في أن يتزاحم مع جماهير شعبه في الأسواق والمواصلات العامة، كيف لا وهو من تنازل عن حقه في التعويض لإحتراق سيارته في أحداث الإثنين الدامي في العام 2005، كنت أتعجب دوما في قدرته على أدارة وقته فرغم المهام الحزبية الكثيرة فهو لم يتغيب يوما عن رفيق، صديق، صلة رحم، في حزن أو فرح، وبحكم ظروف العمل الحزبي فقد زار معظم أقاليم السودان، ولديه مع كل مدينة ذكريات ومعارف، 56 عاماً من حياته قضاها في العمل العام، بين عمل حزبي شاق مطاردات واعتقالات، فصل وتشريد حتى أصبحت حياته محطة هامة في مسيرة الحزب وبصمة واضحة في مسيرة التطور الوطني والقومي.
إلتقيته في عدة جلسات خارج الأطر التنظيمية، وذلك لأن باب منزله ظل مفتوحا لكل من أراد مقابلته، لذلك كنت أنتهز أي فرصة قادتني لأن أجلس معه وأستمع إليه، قصص ومواقف ظل يسردها كأنها حدثت اليوم، فهو يمتلك ذاكرة لم تؤثر عليها الظروف وطول السنوات، يحكي كيف تلمسوا طريقهم إلى العمل العام عبر منظمات الاشتراكيين العرب بمدرسة النهضة الثانوية بمدينة الأبيض مع بداية الستينيات، حيث تشكل وجدانهم القومي بخطابات الزعيم جمال عبد الناصر التي كانت تعرض في فترة طابور الصباح.
قادته الأقدار ليواصل مسيرته الدراسية بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وليكون جزء من أعضاء الطليعة العربية الاشتراكية وهو مسمى القوميين العرب بجامعة القاهرة، ولم يكن حينها قد انتسب لحزب البعث، لكنه شارك في الكثير من الأحداث الوطنية في تلك الفترة، ومنها ثورة اكتوبر 1964،المؤتمر الأول للاشتراكين العرب 1966، مؤتمر الدفاع عن الديمقراطية بعد حادثة معهد المعلمين، وطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، وكان ممن دافعوا عن دور الحزب الشيوعي بعد الهجمة الشرسة التي تعرض لها الحزب في تلك الفترة، هيئة الدفاع عن الوطن العربي 1967، قادوا التظاهرات التي خرجت في الخرطوم تأييدا لقرارات قمة اللاءات الثلاثة في الخرطوم، مؤتمر الاشتراكيين العرب الثاني 1968…الخ.
يحكي عن ذلك اليوم الذي تغيرت فيه مسيرة حياته من شاب متأثر بتجربة يوليو 1952 في مصر، ومعجب بزعيمها جمال عبد الناصر وإنتسابه لحزب البعث العربي الاشتراكي، يذكر تفاصيل ذلك اليوم، وكأنه حدث بالأمس، حيث كان مع عدد من الطلاب حضورا لندوة أقامها التيار الإسلامي بميدان (الباسكت) جامعة الخرطوم، عقب إعدام سيد قطب، وعدد من قيادات الأخوان المسلمين في مصر علي يد عبد الناصر في أغسطس 1966، يومها شن الترابي هجوما عنيفا على عبد الناصر وتجربته، وختم حديثه بالقول (إن لي اخوانا في مصر أحبهم حبا في الله وآخرين أبغضهم أيضا في الله)، يقول الأستاذ عثمان يومها رد عليه بدر الدين مدثر، ودافع عن تجربة عبدالناصر رغم خلاف البعثيين والناصريين في تلك الفترة، وختم رده للترابي (بأن إخوانك الذين تحبهم في الله قد ذهبوا إلى غير رجعة)، هذا الرد جعلني أقول في قرارة نفسي لو صاح زي ما بقولوا بدر الدين دا بعثي أنا من يوم الليلة بعثي.
أعتقل مع عدد من البعثيين بمدينة الأبيض بعد حركة يوليو 1971 وقدموا للمحاكمة بتهمة مخالفة الأمر الجمهوري الرابع (الدعوة لتقويض النظام)، حكم فيها بالسجن لكل من علي الريح السنهوري، ومحمد الضو عمران، وتمت تبرئة عثمان أبو رأس، لكنه فصل من عمله “كمفتش عمل” بإقليم كردفان.
شارك كعضو في المؤتمر الرابع للحزب 1974، وساهم في أعمال دورة مارس 1976، تلك الدورة التي وضعت البعثيين على أعتاب مرحلة متقدمة في مواجهة نظام مايو، وبالتزامن مع تحالف حزب البعث مع الشريف حسين الهندي 1979، تم تصعيد عثمان إدريس أبو رأس، للقيادة في الداخل، والتي كانت تضم على الريح كنائب أمين سر، محمد الضو عمران، محمد علي جادين، إسماعيل عبد الله مالك، وبعد إعتقال جادين، وإسماعيل، تم تصعيد أبو رأس إلى هيئة أمانة السر، وهي أعلى مركز قيادي للحزب حينها، ليصبح بعدها مهندسا ومخططا لتنفيذ شعار الاضراب السياسي والعصيان المدني حتى لحظة النصر في يوم 6 ابريل 1985.
جاءت ليلة الجمعة 30 يونيو 1989 لتجده في بغداد حضورا لتشيع القائد المؤسس عليه رحمة الله، قررت القيادة عودتهم، هو ورئيس تحرير جريدة الهدف المرحوم عبد الله الصافي، سرا إلى الخرطوم في نفس اليوم، تولى قيادة الحزب في الداخل بعد حركة رمضان وتحديدا في مايو 1990 واستمر ذلك إلى العام 2003، سنوات كانت هي الأصعب على مسيرة الحزب والرفاق، مطاردات، اعتقالات، وانقسامات، خرج منها الحزب بفضل قيادته إلى ما ترونه، قد امتدت جذوره عميقا في تربة بلادنا، وأصبح عصيا على الاجتثاث، والاحتواء كما قال أمين سره في المؤتمر السادس.
كل هذه السنوات الطويلة لكن ظل ألم نهار ذلك اليوم 8 ديسمبر 1990 لم يبارحه حتى اللحظة، فقد توفى بين يديه رفيقه عبد الله الصافي لتضعه ظروف مطاردات الرفاق واعتقالاتهم بأن يحمل الجثمان إلى أسرته “زوجته وبناته” الذين لم يروه منذ 6 أشهر كان مختفيا فيها.
من بين الاعتقالات الكثيرة التي تعرض لها، أذكر ذلك الإعتقال الذي تم في أغسطس 1994، والذي توفى فيه والده بعد 8 أشهر من اعتقاله، يقول عنه الأستاذ عثمان (بعد وفاة والدي منحت أذن بالخروج من المعتقل على أن أعود بعد إسبوع، وفعلا خرجت وكان بإمكاني ألا أعود مرة أخرى، لكني قدرت بعدها أن الهرب سيكون تقليد سيء قد يحرم أخرين ربما تمر عليهم نفس الظروف من هذا الإذن)، وفعلا عاد الأستاذ إلى المعتقل بعد أسبوع قضاه متنقلا بين مدن العاصمة الثلاثة، سيرا على الأقدام لتأمين حركة سيره وتنفيذ عدد من المهام الحزبية.

سفر نضالي طويل، تحدثت عن جزء بسيط منه اليوم، لكن حتما هناك الكثير من القصص و البطولات سنحكي عنها يوما للصغار القادمين.
وها هو اليوم عثمان إدريس أبو رأس يلحق برفاقه في معتقلات النظام الذي يترنح للسقوط، مؤمنين بقدرة شعبهم على إسقاطه وتحقيق بديل وطني تقدمي يعبر عن تطلعاتنا جميعا.