حوَ مَشرُوعٍ فكرِيٍّ عَربِيٍّ تَحَرُّريٍّ لِمُوَاكَبَةِ المَفاهِيمِ القَوْمِيَّةِ لِلتَّحَدِّيَاتِ الرَّاهِنَ

صحيفة الهدف

حسن خليل غريب

في ظل التحديات الوجودية الجسيمة وغير المسبوقة التي تشهدها الأمة العربية في أغلب أقطارها، من احتلال أجنبي وهيمنة إقليمية وح-روب وتفتيت مجتمعي وتغيير ديموغرافي وانهيارات اقتصادية، وفي ظل غياب مشروع قومي يؤمن الحد الأدنى لمواجهة كل ذلك، لابد من العمل على تجاوز هذا الفراغ الكبير للقوى الطليعية في الأمة، بصياغة مشروع فكري عربي تحرري، ليشكل الحجر الأساس نحو الحلول الكبرى.

ومما لاشك فيه أن المفاهيم القومية يجب أن تواكب المتغيرات الجسيمة في الواقع العربي من أجل أن تنجح في مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية .

فمن أبرز تحديات الفكر القومي المعاصر هي وجود الصراعات الداخلية وشيوع النعرات الطائفية والإثنية والقبلية، والتنافس بين الأيديولوجيات، وغياب الديمقراطية والمشاركة الشعبية. بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناتجة عن العولمة، إضافة إلى إشكالية التأصيل والمعاصرة و محاولة تحقيق التوازن بين الأصول التاريخية للثقافة العربية والواقع المعاصر المتغير.

أولاً: سياق الإشكالية

شهد الفكر العربي المعاصر حالة من التراجع عن مواكبة المتغيرات الخطيرة المتسارعة، كما شهد حالة من التذبذب بين الانغلاق الديني والتجارب القومية المتعثرة، حيث طغى الخطاب الأيديولوجي على المنهج النقدي والتحليلي. في هذا السياق، برزت محاولات فكرية تسعى إلى تأسيس خطاب جديد يستوعب المتغيرات الحاصلة ويُعلي من قيمة العقل، ويحرر المفاهيم من التوظيف السلطوي، سواء كان دينيًا أو سياسيًا، مما يرفع من القدرة على بلورة مشروع فكري تحرري فاعل.

ثانياً: الإشكالية المركزية

كيف يمكن لمشروع فكري عربي أن يجمع بين نقد الفكر التقليدي الجامد وإعادة بناء الفكر القومي في إطار تحرري عقلاني؟ وهل يمكن لهذا المشروع أن يقدم نموذجًا معرفيًا يتجاوز الجمود الأيديولوجي؟ ويستطيع ان يواكب التحديات والمتغيرات ويؤطر للحلول الناجحة والممكنة لها؟

وللإجابة على ذلك تتفرّع من هذه الإشكالية عدة تساؤلات فرعية:

ما هي أهم التحديات الوجودية، التي ينبغي ان يتصدى لها الفكر القومي؟

ما هو المنهج النقدي المستخدم في تحليل النصوص ؟

كيف تم توظيف النضال السياسي في خدمة المشروع المعرفي؟

ما طبيعة العلاقة بين العروبة والإسلام في هذا التصور؟

5- هل استطاع المشروع تجاوز الفكر الطائفي أو الإثني؟

6 -كيف تم التعامل مع الفكر الماركسي من منظور قومي عربي؟

ثالثاً: أهمية تناول الإشكالية وموقعها ضمن الهيكل البحثي

تمثل معالجة هذه الإشكالية أساس لكل مشروع فكري جديد باعتبارها مدخلًا حيويًا لفهم تحديات الفكر العربي الحديث، وتعكس أهم قضاياه مثل طبيعة العلاقة بين التراث والحداثة، بين المقدّس والعقلاني، وبين الهوية والانفتاح. وتحليل هذا النموذج الفكري يمنحنا فرصة للغوص في تجربة تسعى إلى إعادة تموضع

الثقافة العربية ضمن سياق نقدي معرفي تحرري مواكب للعصر وقادر على النجاح في تأطير نضال الأمة وقيادته نحو تحقيق أهدافها. وتُعد الإشكالية محورًا

أساسيًا في البحث، حيث يتم من خلالها تحديد المنطلقات النظرية، وتعريف المفاهيم والمناهج، ثم تحليلها وتوسيعها عبر دراسة نماذج من الكتابات الفكرية وتحليل الرؤية النقدية في مختلف القضايا.

رابعًا: ملامح النموذج المعرفي العربي

تشمل هذه الملامح ما يلي:

استيعاب المتغيرات الحديثة المتلاحقة في الواقع العربي و تحدياتها.

نقد مزدوج لفكر التسييس الديني وللفكرالقومي: يتجاوز المشروع التحيزات الأيديولوجية السائدة من خلال نقد الفكر التقليدي الجامد والفكر القومي غير العلمي.

2-تحليل العلاقة بين العروبة والإسلام: بما يشجع التحليل النقدي ويعزز بناء مشروع علمي عقلاني.

3-رفض الأصوليات، التي تتصف بالجمود: ينتقد الأصوليات الدينية والسياسية التي تتصف بالجمود، بوصفها عائقًا أمام النهضة، ويطرح بديلًا عقلانيًا تحرريًا.

4-رؤية قومية مدنية: يدعو إلى بناء مجتمع مدني قومي موحد يحترم الخصوصيات الدينية والاثنية المختلفة دون أن يخضع لها، متجاوزًا الجمود الطائفي والمذهبي والعشائري والجهوي.

خامسًا: أثر المشروع في الفكر العربي

يُعد من المحاولات القليلة التي تدمج بين الفكر والنضال السياسي، وتعزز بناء المفاهيم القومية على أسس علمية وعقلانية.

2-يفتح بابًا للحوار بين التيارات الفكرية دون الوقوع في فخ التوفيق السطحي أو التبعية للأيديولوجيات الجامدة.

3-يقدم بدائل معرفية قابلة للتطبيق، خاصة في ظل الأزمات الوجودية والفكرية والسياسية، التي تعاني منها المجتمعات العربية.

سادسًا: الركائز النظرية للفكر القومي

يتأسس الفكر القومي على رؤية عقلانية مدنية تعتبر القومية إطارًا سياسيًا وثقافيًا جامعًا يتجاوز الانتماءات الدينية والعرقية، ويهدف إلى بناء مجتمع وطني موحد قائم على المواطنة والمصلحة العامة. ومن أهم  سمات وركائز الفكر القومي هي :

1-الفكر القومي ثابت جامع يعكس مصلحة ووحدة المجتمع الوطني.

2-الفصل بين الدين والسياسة، مع اعتماد المواطنة المتساوية كأساس.

3-الثوابت القومية تشمل اللغة، الثقافة المشتركة، الأرض الواحدة، التاريخ  والمصير المشترك.

4-رفض التفسير الأغلبي، الذي يقود إلى ديكتاتورية أيًا كانت اسسها، دينية أو عرقية أو غيرها.

5-المواطن يُقدَّر بحسب عمله في خدمة الأمة، لا بحسب دينه أو عرقه أو انتمائه القبلي.

سابعًا: الانفتاح على المرجعيات الفكرية والتاريخية

1-يستفيد المشروع من تجارب عالمية ناجحة في هذا المجال ومنها على سبيل المثال التجربة الأوروبية في نشأة الفكر القومي، والتجارب في بعض دول جنوب شرق آسيا وأميركا الجنوبية، حيث تأسست الدولة القومية على العدالة والمساواة بعيدًا عن الهيمنة الكنسية أو الطائفية او سيادة الاقطاع.

2-يرفض اعتماد الحاضنة الثقافية الشعبوية كمحدد للمفهوم القومي، داعيًا إلى ارتقائها لمستوى النظرية.

ثامناً: أهداف الفكر القومي

من أهم الأهداف التي يسعى الفكر القومي إلى تحقيقها هي :

1-بناء دولة قومية حديثة تحترم التعدد وتُعلي من شأن العقل والحرية.

2-تجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية لصالح وحدة وطنية قائمة على المصلحة القومية العليا.

3-تأسيس ثقافة قومية تقدمية وإنسانية تُعزز من قيمة الفرد ضمن الجماعة دون تمييز.

ملامح الفكر القومي التحرري في السياق العربي

من أهم ملامح الفكر القومي التحرري المطلوب هي:

أولًا: التحرر من التبعية للأيديولوجيات الجامدة أو المُقَولَبة

1-يرفض هذا التصور أن يكون الفكر القومي انعكاسًا لخطر إقصاء الآخر. وبدلًا من ذلك، يُطرح الفكر القومي كمشروع علمي عقلاني تاريخي، يستند إلى وحدة الأرض والثقافة والمصير، ويُعلي من شأن العلم والعقل في بناء الدولة والمجتمع.

2-هذا الموقف يتجاوز الخطابات التقليدية ولا سيما تلك التي تفتقر الى مواكبة العصر والتحديات الجديدة.

3-كما ينقض فكرة “القومية العنصرية المتعصبة” التي تقوم على المشاعر والانفعالات، دون أسس تحليلية أو واقعية.

ثانيًا: المواطنة والانتماء

يرتكز هذا النموذج على أن المواطنة الفاعلة هي أساس الانتماء القومي، لا الخلفية الدينية أو الإثنية. فالمواطن يُقيَّم بحسب مساهمته في خدمة الأمة، لا بحسب عقيدته أو عِرقه أو انتمائه العشائري أو الجهوي.

1-يدعو إلى عدم تسييس الدين وإلى فصل الدين عن الدولة دون معاداة الدين.

2-يشدد على احترام التعدد الديني والثقافي ضمن إطار الوحدة القومية.

3-يسعى إلى تجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية، التي مزّقت المجتمعات العربية. وهذا التصور يعكس فهمًا حديثًا للدولة القومية بوصفها حاضنة تعددية لا تختزل شعبها في هويات ضيقة.

ثالثًا: من التراث إلى النظرية

يُميّز هذا الطرح بين التراث الثقافي العربي والنظرية القومية، فرغم أهمية التراث في بلورة الهوية العربية إلا أنه لا يجب أن يكون معيارًا نهائيًا أو وحيدًا في رسم ملامح الفكر القومي، بل يجب تحليله وإعادة توظيفه ضمن رؤية عقلانية قابلة للبناء. مع التاكيد على المفهومين التاليين :

1-الفكر القومي هنا ليس اجترارًا جامدًا للماضي، بل مشروعًا تأسيسيًا للمستقبل.

2-إنه دعوة إلى ” تعريب العقل ” بدلًا من ” تجميد التاريخ ” .

رابعًا: الهدف التحرري للفكر القومي

يرتبط الفكر القومي ارتباطًا وثيقًا بمشروع التحرر الوطني، ويُعد من أدواته الأساسية. ويركز على :

ان الوحدة القومية تُطرح كشرط للتحرر من الاحتلال والتبعية، وضمان لبناء دولة ديمقراطية.

2-يتم توظيف القومية كرافعة سياسية واجتماعية، لا كمجرد مفهوم ثقافي.

3-يُستخدم هذا التصور في نقد التجارب العربية، التي أخفقت في بناء دول قومية حديثة.

خامسًا: محاذير من الوقوع في أفخاخ الدعوات السياسية الأممية

ويشمل ذلك:

1-نقد للفكرة الإمبراطورية بوصفها مشروعًا قمعيًا زائلًا، ويدعو إلى تجاوزها نحو عصر قومي تحرري. وذلك لأنها تتجاوز السيادة الوطنية، وتلغي حق الشعوب في تقرير مصيرها ضمن إطار قومي.

2- الدعوة إلى قيام نظام مدني ديموقراطي لا يلغي أخلاقيات الأديان ، أي تأسيس نظام سياسي حديث يضمن العدالة والمساواة دون إقصاء ديني.

سادساً: التعدديات في الفكر القومي

تشكل التعدديات الدينية والعرقية الخاضعة الى توجيه واستغلال الخارج الاقليمي والدولي، تحديًا مستمرًا أمام مشاريع الوحدة الوطنية والتنمية السياسية.

والبديل هو تصور فكري يستند إلى ثوابت قومية كحل جذري لهذه الإشكالية، باعتبار المرجعية القومية قادرة على جمع الاجزاء دون أن تُفقد أي مكوّن خصوصيته أو حقوقه.

سابعًا:  مقومات الفكر القومي

1-اللغة والثقافة المشتركة كأساس للهوية الجماعية

2-الأرض والتاريخ والمصير الواحد كوحدة مصالح ومسؤوليات

3-حرية الاعتقاد دون تحويلها لأداة فرز أو هيمنة او فوضى

4-المساواة القانونية على أساس الحقوق والواجبات

5-الفصل بين الديني والسياسي: يُشدد على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة وحماية التعددية والتوازن المجتمعي.

6-الانطلاق من القاعدة الشعبية: الفكر القومي يجب أن ينبثق من حركة ثقافية تصاعدية، لا أن يُفَصَّل على مقاس الثقافة الشعبوية الطائفية أو يُستغل من قبل النخب المسيطرة.

في هذا الإطار، يُطرح النموذج القومي كمظلة لكل التعدديات، لا كسيف يُقصى به الآخر. والسؤال يبقى: هل يمكن لهذا التصور أن يُعيد رسم خريطة الهوية الوطنية بعيدًا عن الانقسامات؟ الإجابة تتطلب اختبارًا عمليًا وميدانيًا، لا مجرد تنظير.

خلاصة تحليلية

يمثل هذا النموذج القومي مقاربة عقلانية تحررية لمواكبة عالم معاصر ملئ بالتطورات والتحديات الجديدة، ويسعى لتخليص المفاهيم من جمود بعض الأيديولوجيات. إنه فكر يُعيد الاعتبار للعقل والمواطنة في فهم الهوية، ويُقدّم بديلًا عن الطروحات الإثنية أو الطائفية، التي كرّست الانقسام. ويمكن اعتباره محاولة جادة لتجديد الفكر العربي، وبناء ثقافة قومية تؤمن بالحرية والعدالة والمساواة

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.