في كلِّ 25 من نوفمبر، يرفع العالمُ، بلا موسيقى ولمسات احتفالية مبالغَة، لافتةَ مبدأٍ أخلاقيٍّ واضح: لا حياة كريمة إذا استُشرى العنف في جسدِ المجتمع، ولا إنسانية كاملة إذا كانت شريحةٌ – هي النساء – محرومة من الحماية والكرامة. هذا التاريخ لم يُختَر اعتباطًا؛ إنما أجلّته الأممُ لتذكّر التاريخَ الحديثَ بأنّ العنف ضد المرأة ليس مشّكلًا فرديًا أو عائليًا فقط، بل ظاهرةٌ اجتماعية وسياسية تحملُ تداعياتٍ على الحرية والعدالة والتنمية. وقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلانًا يعرّف العنف ضد المرأة ويؤكد مسؤولية الدول في منعه وإدانته، كما خصصت 25 نوفمبر كيومٍ دولي للمناهضة والتحسيس.
عندما تُنتهكُ أجسادُ النساء، تُنهَبُ بالضرورة قدرةُ المجتمع على الاعتبار الأخلاقيّ. العنف ضد المرأة ليس (قضية خاصة)؛ هو مرآةٌ تُظهرُ كيف تقرأُ المجتمعاتُ السلطةَ، وكيف تُقسّمُ قيمَ الحماية بين مدنيٍّ ومُستبِدٍّ. من هذا المنطلق، يصبح 25 نوفمبر ليست مجرّد يوم تنديدٍ، بل يومُ مطالبةٍ بإعادة تركيب عقدِ المواطنة: عقدٍ لا يقبلُ أن تكونَ الحمايةُ امتيازًا أو رفاهيةً، بل حقًا مؤسسيًا وفوريًا.
وليس العنف ضد النساء ظاهرةً طارئة أو مرتبطة بمرحلة سياسية محددة؛ فهو امتداد لطبقات طويلة من التراتبية الاجتماعية والأنساق الأبوية، التي رسخت على مدى قرون. ما يجعل اليوم الدولي لمناهضة العنف تذكيرًا بضرورة تفكيك تلك البنى، التي تتجدد بأشكال مختلفة عبر الزمن.
إن أصلُ هذا اليوم عالميًّا، يحيي ذكرى أخواتٍ استشهدْنَ دفاعًا عن الحرية (أخوات ميرابال) وأصبحن رمزًا لمقاومة القهر. منذ ثمانينيات القرن الماضي ثمّ عبر تبنّي الأمم المتحدة للبيانات والقرارات، تكوّنَ إطارٌ دوليٌّ يدعو إلى تحرُّكٍ جماعيّ يمتدُّ عادةً لستة عشر يومًا من النشاط (من 25 نوفمبر إلى 10 ديسمبر). هذا الإطارُ يحملُ رسالةً مزدوجة: الذاكرةُ التاريخية، والالتزامُ المعاصر بمنع الانته-اكات وتقديم المُساءَلة.
لكنَّ النصوصَ والبياناتِ الدولية تكتسبُ معناها الحقيقيّ فقط حين تواجهُها أرضُ الواقع؛ وهنا تكمنُ مأساةُ المرأة السودانية المعاصرة. في ظرفٍ اتسمَ بالعنف المسلح والنزوح الشامل والانهيارِ المؤسسي، تبرزُ النساءُ كأطرافٍ تعرضت لقسوةٍ مزدوجة: عنف الح-رب المباشر (اعتداءات جنسية، اغتصاب، اختطاف) وعنفُ الانهيار الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ (فقر مطبق، فقدان موارد الرعاية، هشاشة الحماية القانونية). تقاريرُ منظماتِ حقوقِ الإنسان والأممِ المتحدة وثّقتْ حالاتٍ واسعةً من العنف الجنسي والتمييز والاستغلال في السودان منذ اندلاع النزاع، وأشارت إلى استخدام العنف الجنسي كأداةٍ للترهيب والتطهير الاجتماعي
كيف تعيشُ المرأةُ السودانيةُ (25 نوفمبر)؟ سؤالٌ يختلط فيه الحزنُ بالصرخة وبالبذل:
1. بالنسبةِ لعديدٍ من النساء، يمرُّ اليومُ كسلسلةِ أيامٍ أخرى من الألمِ غير المُعلن: لا مواطنَ يتلقّى الشهادة، ولا مرافقَ صحيةً متاحة، ولا فعاليةٍ رسمية تُترجمُ الشعارات إلى حمايةٍ فعلية. في المخيماتِ والمناطقِ المحاصَرة، قد يكونُ اليومُ مذكّرةً بجرحٍ لم يُعالج وبخوفٍ لم ينتهِ.
2. مع ذلك، تعيش فئاتٌ من النساء اليومَ كمناسبةٍ للمقاومة: تجمعاتٍ محلية، مجموعاتٍ نسويةٍ مدنية، وتوثيقٌ شهاداتٍ رغم المخاطر. منذ ثورة ديسمبر 2018 كانت المرأة السودانية في مقدّمةِ الحراك العامّ، وها هي اليوم تتواصلُ مع ذاك الميراث النضالي، تحوّل الألمَ إلى سردٍ يوثّقُ الانتهاكات ويطالب بالعدالة. هذه الممارسات قد لا تبدو كبيرة على مستوى الإعلام الدوليِّ، لكنها تشكلُ نواةً للالتفاف المدنيِّ نحو تغييرٍ طويلِ الأمد.
3. هناك حالةُ ازدواجيةٍ أخلاقية وقانونية: القوانينُ والمؤسساتُ التي من المفترض أن تحمي، إما اخترقتْ أو تهاوتْ، أو أنّها تفتقرُ إلى الإرادةِ والقدرةِ على التحقيق والمساءلة. بالتالي، يصبح الاحتفاء باليوم الدوليّ ناقصًا إذا لم يقترن بآلياتِ محاسبةٍ فعليةٍ وحمايةٍ طارئةٍ ومموّلة.
4. من هذا الواقع تتولَّدُ عددٌ من الدعوات العملية الضرورية التي لا غنى عنها، وهي دعواتٌ لا تكتفي بالبلاغات الخطابية بل تطالب بتدابيرٍ ملموسة:
أ. حمايةٌ فورية وملموسة: إنشاءُ ممراتٍ إنسانيةٍ آمنة، مراكزُ استقبالٍ طبية ونفسية متنقلة، وضمانُ سلاسلِ إمدادٍ للنساءِ النازحات والناجيات.
ب. توثيقٌ مستقلّ وشفاف: دعمُ آلياتٍ محليةٍ ووطنيةٍ ودوليةٍ لتوثيق الانتهاكات، مع حِفظِ الأدلةِ وتوفيرِ سُبُلِ حمايةٍ للمبلّغات والشهود.
ت. • مساءلةٌ ومحاسبة: إرساءُ آليات قضائيةٍ محايدةٍ أو آلياتِ تحقيقٍ دوليةٍ حين تعجزُ الأنظمة الوطنية عن التصدي، وقطعُ الطريقِ أمام الإفلات من العقاب.
ث. تمكينٌ مجتمعيّ طويل الأمد: دعمُ منظماتِ النساء محليًا، برامجُ تمكينٍ اقتصادي ونفسي، وإصلاحُ المناهجِ الثقافية عبر التعليم والحوار الديني والاجتماعي.
وإذا كانت التجربة السودانية تقدم نموذجًا مكثفًا للعنف في سياق الحرب والانهيار المؤسسي، فإنّ مشهد العنف ضد النساء في الوطن العربي أوسع وأكثر تنوعًا، تتداخل فيه السياسة بالهوية والثقافة والقانون.
5. على امتداد الجغرافيا العربية، تعيشُ المرأة وضعًا مركّبًا تتداخل فيه البنى الثقافية مع التحولات السياسية والاقتصادية. ورغم اختلاف السياقات بين الخليج العربي والمشرق والمغرب العربي، إلا أنّ ثمة خيطًا جامعًا يمنح المرأة العربية تجربةً متقاربة في معركتها ضد العنف؛ فهي تقف بين إرثٍ تاريخيٍّ يتجدد، ومحاولاتٍ إصلاحيةٍ تصطدمُ أحيانًا بالبنى الاجتماعية الراسخة. فالمرأة العربية ما زالت تواجه أشكالًا متعددة من العنف: عنفًا أسريًا مغلَّفًا بثقافة الصمت، وعنفًا قانونيًا يتمثل في ثغرات تشريعية ونُظُمٍ تمييزية، وعنفًا اقتصاديًا يعوق وصولها المتكافئ إلى الفرص، وعنفًا رمزيًا تُكرّسه بعض الخطابات التي تحصرها في أدوارٍ نمطية. ومع ذلك، فقد شهد العقدان الأخيران صعودًا ملموسًا للحركات النسوية العربية والمبادرات المدنية والبرامج الحكومية التي دفعت باتجاه إصلاحات قانونية وتعليمية وحملات توعية واسعة، من العراق وتونس والمغرب إلى السعودية والإمارات والأردن وقطر. هذه التحولات لا تلغي التحديات، لكنها تشير إلى بداية انتقالٍ ثقافيٍّ نحو الاعتراف بدور المرأة بوصفها فاعلًا اجتماعيًا كامل الأهلية، لا مُجرّد مُتلقية للحماية. ومن داخل هذا المشهد العربي المتنوع، يتخذ يوم 25 نوفمبر بُعدًا خاصًا: فهو ليس فقط إعلانًا عالميًا ضد العنف، بل أيضًا مرآةً تكشفُ مقدار تقدم كل مجتمع في بناء شراكةٍ عادلة بين الرجل والمرأة، وتؤكد أنّ النهضة العربية الحقيقية تبدأ من صيانة كرامة النساء، لأنهنّ يمثّلن معيار رُقيّ المجتمع ومؤشّر صدق مشروعه الحضاري.
أما المرأة في العراق وفلسطين والأحواز، فهي تحمل طبقة إضافية من الألم؛ إذ يتجاوز العنف ضدها الإطار الأسري أو الاجتماعي ليصبح عنفًا بنيويًا مرتبطًا بالاحتلال والح-روب والانقسامات الداخلية وسياسات القمع. فالمرأة العراقية تواجه إرثًا من الصراعات الممتدة منذ عقود، من العنف المجتمعي والسياسي ما خلّفه من فقدٍ ونزوح وترمل. أمّا المرأة الفلسطينية، فهي تقف يوميًا في مواجهة عنف الاحتلال: اعتقالات، استهداف، تهجير، وهدم البيوت، إلى جانب عبء الصمود والحفاظ على بنية المجتمع تحت الحصار. وفي الأحواز، تواجه المرأة نسقًا آخر من القهر، قهرًا ثقافيًا–سياسيًا يتمثل في محو الهوية، التضييق على التعليم والعمل، والاعتقالات التي تطال الناشطات، مما يجعل نضالها مضاعفًا بين الدفاع عن حقها كامرأة وحقها كشعبٍ يسعى لكرامته. هذه التجارب الثلاث تمثل نموذجًا مكثفًا للعنف السياسي والجماعي الذي يطال النساء، وتكشف أن يوم 25 نوفمبر ليس يومًا لمناهضة العنف الأسري فقط، بل أيضًا لمناهضة كل أجهزة القهر، التي تحاصر المرأة العربية في ميادين الصراع المفتوح.
وفي بعدٍ فلسفيّ أخير، فإن يومَ 25 نوفمبر لا يسألُ فقط كيفَ نحمي النساءَ من العنف، بل يسألُ كيف نبني مجتمعًا لا يكون العنفُ فيه مُؤشِّرًا للسلطة أو وسيلةَ صيانةٍ للموقع الاجتماعي. للمرأةِ العربية والسودانيةِ، كما لكل امرأةٍ في الميادينِ المشتعلة، الحقُّ في أن يكونَ يومُها هذا يومَ ذاكرةٍ وكرامةٍ وارتدادٍ عمليّ عن تعميم العنف. المجتمع الدوليُّ مسؤولٌ عن دعم تلكِ الخطواتِ، لكن المسيرة لا تُنجَزُ إلا حين تتسلّحُ المجتمعاتُ بالسياساتِ والمؤسساتِ والتراكمِ الثقافيِّ الذي يجعلُ الحمايةَ قاعدةَ المواطنة، لا استثناءً منها.
خاتمة — كلمةٌ للإنسانية: إنّ تكرارَ التنديدِ كلّ 25 نوفمبر يصبحُ فارغًا إن لم يُترجمْ إلى أفعالٍ تقطعُ تكرارَ الجريمة. وإن كانت المرأةُ السودانيةُ تعيشُ هذا اليومَ بمرارةٍ وألمٍ، فهي أيضًا تعيشه بإصرارٍ على أن يُذكَر العالمُ قيمَها ودورها وحتميةَ حمايتها. وإذا كان الألم السوداني مثالًا صارخًا، فإنّ الألم العراقي والفلسطيني والأحوازي يكشف أن العنف ضد المرأة في الوطن العربي ليس حالة محلية، بل مشهدًا تتقاطع فيه الحروب والاحتلالات والانقسامات مع غياب العدالة الاجتماعية. فلا كرامةَ للمجتمعِ إذا ظلَّ نصفُهُ مهدَّدًا، ولا أمنٌ إن ظلَّت النساءُ شعرةَ العدلِ المفتوحةَ على المجهول.

Leave a Reply