السودان والوطن العربي في لحظة الانهيار والتحوّل:

صحيفة الهدف

قراءة فلسفية في زمنٍ يتشكّل من جديد
وبصيرة حزب البعث في مواجهة العاصفة

في الخرائط القديمة للعرب، كانت الجغرافيا تشبه القصيدة: مترابطة، نابضة، وممتدة بمعنى يتجاوز الحدود السياسية. لكن الخرائط اليوم أشبه بمرآة محطّمة؛ كل شظية تعكس مأساة، وكل قطرٍ يجرّ خلفه تاريخًا مثقلًا بالانكسارات. السودان — بجرحه النازف — ليس سوى الصورة الأكثر حدّة لزمن عربي يتفكك، ولحظة وجودية يختلط فيها الرماد بالبدايات المحتملة.
ما نعيشه ليس أزمة سياسية عابرة، ولا انهيارًا اقتصاديًا طارئًا، بل هو زلزال يضرب أساس فكرة الدولة نفسها: شرعيتها، معناها، قدرتها على تمثيل الناس. وحين تنهار الدولة، لا ينهار معها جهازها الإداري فقط، بل يسقط معها خيال المجتمع عن نفسه. إنها اللحظة، التي وصفها هانا أرندت بأنها (فراغ المعنى)، حيث يفقد الناس القدرة على التمييز بين ما يجب أن يكون وما هو كائن.
هذا الفراغ أصاب السودان مثلما أصاب أجزاء واسعة من الوطن العربي، إذ تختلط السلطة بالعنف، والعنف بالاقتصاد، والاقتصاد بالبقاء، والبقاء بالنجاة اليومية. وفي مثل هذه اللحظات، يصبح الفكر أهم من السلطة، والرؤية أعمق من القرار، لأن الخراب حين ينتشر يتطلب بصيرة قادرة على قراءة ما وراء الفوضى.
أولاً: المشهد السياسي — الدولة حين تفقد روحها
في السودان، لم تعد الدولة إطارًا جامعًا بل أصبحت ساحة صراع مفتوحة: سلطتان تتنازعان ما تبقى من الخراب، ومجتمع معلّق في الفراغ، وسيادة تتبدد بين الميليشيات والقواعد الأجنبية.
ما يحدث ليس صراعًا على الحكم، بل صراع على التعريف نفسه: ما الذي تبقى من معنى (الدولة الوطنية)؟
أو كما يسأل غرامشي (ماذا يحدث حين يموت القديم ولا يولد الجديد بعد?).
في بقية الوطن العربي، تتكرر الصورة بأشكال مختلفة: أنظمة تدير شعوبها بمنطق الأمن لا بمنطق السياسة، نخب تخشى التغيير أكثر مما تخشى الانهيار، وناس يتنقلون بين حطام الأحلام القديمة وغياب البدائل الجديدة.
السياسة فقدت وظيفتها الأخلاقية الأولى، في أن تكون تعبيرًا عن الإرادة العامة لا عن خوف الحاكم.
ثانيًا: المشهد الاقتصادي — حين يتحول الاقتصاد إلى جغرافيا للنجاة
اقتصاد السودان اليوم ليس اقتصادًا بل بيئة بقاء: سوق سوداء تتسع، عملة تتهاوى، موارد تتبخر، و90% من النشاط الاقتصادي يتحرك خارج الدولة. إنه ما يسميه فرانتز فانون بـ (اقتصاد العنف): اقتصاد ينتج الفوضى كما ينتج السلع، ويعيد تشكيل الإنسان وفق شروط المعركة لا شروط الحياة.
وفي الوطن العربي، لا يبدو الوضع مختلفًا كثيرًا: اقتصاد بلا إنتاج، رأس مال بلا قيمة اجتماعية، وقوى شابة تهرب من أوطانها هربًا من مشروع لا يراها ولا يفهمها. لقد أصبح الاقتصاد مجرد واجهة لطبقة تملك كل شيء وتقدم القليل، فيما تتحول الدولة إلى وسيط بين السلطة والسوق.
الاقتصاد، في جوهره الإنساني، يجب أن يكون وسيلة للكرامة. لكن في هذه اللحظة العربية، تحوّل إلى أداة لإعادة إنتاج الضعف.
ثالثًا: المشهد الاستراتيجي — العالم حين يرى الأمة العربية من فوق الخرائط
الخطر الحقيقي ليس الح-رب. الخطر هو هشاشة اللحظة، التي تسبق الح-رب. فالسودان اليوم أرض تتجاذبها القوى الإقليمية والدولية، والوطن العربي يتحرك كأطراف جغرافية في لعبة أمم لا مكان فيها للضعفاء.
لم تعد الاستراتيجية تُطرح بسؤال: من يملك السلاح؟ بل أصبحت تُطرح بسؤال أعمق: من يملك المعنى؟ ومن يملك القرار؟ ومن يملك القدرة على أن يقول، (هذا وطني… وليس حقلاً لتجارب الآخرين؟). والجواب المؤلم: لا أحد يملك ذلك بالشكل الكافي بعد.
رابعًا: حين تصبح الفكرة مقاومة
في زمن الانهيار، لا تعود الحركات السياسية مجرد تنظيمات، بل تتحول إلى (حراس للمعنى).
هكذا يظهر دور حزب البعث: ليس بصفته طرفًا سياسيًا، بل باعتباره مشروعًا فكريًا يرى في اللحظة الراهنة اختبارًا لجوهر الرسالة العربية.
الأزمة ليست أزمة حكومة، بل أزمة رسالة: رسالة الدولة الوطنية، التي سقطت، ورسالة العدالة الاجتماعية، التي صودرت، ورسالة الوحدة، التي تراجعت، ورسالة النهضة، التي حوصرت بين جهل الداخل واستبداد الخارج.
وتقوم رؤية البعث على مبادئ تشكل (أخلاق المستقبل العربي):
1. الدولة الوطنية على أساس المواطنة: لا حكم ميليشيات، ولا طائفية، ولا سلطات موازية. بل دولة تعبر عن (الإنسان–المواطن) لا عن شبكة مصالح مسلحة.
2. استرداد القرار الوطني: الاستقلال ليس شعارًا بل قدرة على الفعل. لا نهضة تحت الوصاية.
3. اقتصاد الإنتاج لا اقتصاد الامتيازات: إعادة بناء اقتصاد يخدم الشعب لا طبقة فوقه.
4. الشعب فاعلاً لا متفرجًا: عودة السياسة إلى الناس، لا إبقاء الناس على هامش السياسة.
5. توحيد الجهد العربي: ليس حلم الوحدة رومانسيًاً، بل ضرورة وجودية: العالم كله يتكتل… فمن يفتت نفسه يختفي.
6. المقاومة بأبعادها الثلاثة: الثقافية – الاجتماعية – السياسية: فمن يتنازل عن إرادته… تُنتزع منه أوطانه.
الخلاصة — السودان مرآة الشعب العربي، والوطن العربي شريك في جرح السودان
لا شيء مما يحدث قدَر. لكنه نتيجة مسار طويل من التخلي عن الفكرة الجامعة، التي تحفظ الدولة والإنسان معًا. السودان، بكل ما فيه من ألم، قادر على أن يكون بداية جديدة… كما يمكن أن يكون النهاية إن لم نستيقظ. والسؤال الحقيقي ليس: من يحكم السودان؟ ومن يحكم الأقطار العربية؟
السؤال هو: ما المشروع الذي سيحكم؟ وما الفكرة التي ستعيد للإنسان مكانته وللوطن معناه وللمستقبل اتجاهه، وللامة العربية رسالتها؟ في قلب هذا السؤال تقف رؤية البعث — لا بوصفها سردية ماضية، بل بوصفها مشروعًا لإعادة بناء الأمة العربية على أساس: الحرية، العدالة، والإنسان كقيمة عليا… لا كرقم في دفتر السلطة.
معًا: لبناء جبهة شعبية عريضة للديمقراطية والتغيير
معًا…. نحو كتلة قومية شعبية عريضة للديمقراطية والتغيير

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.