
إسماعيل مضوي
#ملف_الهدف_الثقافي
في أزمنة الغابرين كانت الفتوى سيفًا وأداة، ولم تكن مجرد رأيٍ علمي يُعرض على أهل النظر والاختلاف، بل حكمًا يُترجم في الدم والممتلكات والسمعة. كان من يَمتلك “الفتوى” يملك قدرًا هائلًا من السُلطة: يبيح أو يحرّم، يشرّع قصاصًا اجتماعيًا يصل إلى إع.دام أو تكفير أو مصادرة ملك، ويحوِّل الخلاف العقَدي إلى جنايةٍ يُعاقَب عليها بسيف السلطة أو بوصمة العار.
الفتوى الأولى: الراديو وصوت الشيطان
يحدّثنا التاريخ في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي عن سطوة الخرافة في عقول بعض المشايخ. من أعجب الفتاوى آنذاك قولهم: “من تصندَق فقد تزندق“! والمقصود بالـ”متصندِق” هو من يملك الراديو. فقد كانوا يرون أن الصوت الذي يخرج منه ليس إلا تلاعبًا من الشيطان: “إنما يُنقل الصوت عن طريق الشيطان لإفساد الناس”. حتى وصل الأمر إلى مصادرة أجهزة الراديو ومحاكمة مقتنيها.
لكن المشهد انقلب رأسًا على عقب حين أهدى أحد الحكّام راديوًّا لأحد كبار المشايخ ليستمع إلى أخبار الـ ح.رب العالمية الثانية. فجأةً خفتت أصوات التكفير، وتحول “صندوق الشيطان” إلى وسيلة مباركة، وبدأ العلماء أنفسهم يتسابقون لإذاعة القرآن والابتهالات والفتاوى عبره!
الفتوى الثانية: التلفاز وفتنة القرن
حين ظهر التلفاز في سبعينيات القرن الماضي ببلاد العرب، قال بعض العلماء: “إنها الفتنة الكبرى التي ستدخل كل بيت مسلم”. حذّروا من أنه يهدد العقيدة والأخلاق، وكأن ضوء الشاشة قادر على تحريف النصوص المقدّسة أو إفساد القلوب قبل العقول. لم يقتصر الأمر على الكلام؛ بل ارتفعت الأصوات، وتوالت التظاهرات، وتكسّرت التلفزيونات، وكُفّر من اقتناها أو تابعها!
ثم جاءت الألعاب المتحركة، فزاد الهلع: أجيال تتعلم الحركة والخيال قبل قراءة الفاتحة! وبعدها الإنترنت، والرد الآلي على المكالمات، وأبواب السيارات التي تُفتح بالريموت.. وكلها “فتن” جديدة أُضيفت إلى قائمة الرعب المتخيَّل.
الفتوى الثالثة: المصحف المطبوع
تخيّل المشهد: حين ظهر المصحف المطبوع لأول مرة، لم يكن حدثًا عاديًا، بل زلزالًا في عقول كثير من المشايخ الذين اعتادوا أن المصحف لا يكون إلا مكتوبًا باليد من شيخ ثقة. فكانوا يسألون: من الناسخ؟ هل هو ثقة؟ ثم انتشر قول: “حبر الطباعة من دهن الخنازير فهو نجس”، وكأن القرآن يحتاج إلى شهادة حسن سيرة وسلوك من الخطاط!
أفتى بعضهم بتحريم القراءة من المصحف المطبوع، كأن المطبعة لم تنقل الحروف نفسها بل اختلقت قرآنًا آخر. وكأن الوحي نفسه يمر عبر مكتب تسجيل تجاري يحمل أختامهم.
لكن الزمن كان أقوى من فتاواهم. ومع انتشار المطبعة، قرأ الناس من النسخ المطبوعة واكتشفوا أنها القرآن ذاته بلا زيادة ولا نقصان. ومع الوقت اقتنع المشايخ الكبار: “إن القرآن محفوظ بنصه، لا بخط يد فلان أو علّان، والطباعة أداة لنشره”. فما كان “بدعة” صار “نعمة”، وما كان “تحريمًا” صار “تيسيرًا”.
أيُّ جرائمٍ كانت تُساق إلى الكفر والزندقة؟
- الردّة: الانتقال من الإسلام إلى غيره.
- الهرطقة الفلسفية: أي طرح عقلاني أو نقدي.
- السخرية من الدين أو الرموز المقدسة.
- السحر والشعوذة.
- الطعن في السلطان أو الدعوة إلى نظام آخر.
لكن الخط الفاصل كان سياسيًا أكثر منه دينيًا: كل من هدد السلطة كان عرضة لأن يُكفَّر أو يُزندق.
لماذا كانت الفتوى تتحول إلى حكم إع.دامي؟
- الخوف من التفكك الاجتماعي والسياسي.
- الاحتكار المؤسسي للعلم الشرعي.
- التوظيف الأمني والسياسي.
- جهل العامة وقلة التواصل المعرفي.
كوميديا الفتاوى في مواجهة الحداثة
مع كل اختراع جديد، كان بعض المشايخ يخرجون من مخابئهم متأهّبين للق.تال، لا ضد الظلم أو الفساد، بل ضد الراديو والتلفاز والسيارة والمصحف المطبوع وحتى الساعة!
فالراديو كان “صوت الشيطان”، والتلفاز “عين إبليس”، والسيارة “مركبة جهنم”، والمصحف المطبوع “بدعة تُفسد القرآن”، والساعة “أداة لتكذيب توقيت المؤذن”. ثم ما يلبث السلطان أن يُهدي أحدهم جهازًا أو يركب سيارة فارهة، فإذا بالفتوى تنقلب بقدرة قادر: يتحول الشيطان إلى وسيلة دعوة، وعين إبليس إلى نافذة وعظ، ومركبة جهنم إلى وسيلة حج ميسّر!
النمط المتكرر
كل اختراع تقني يُستقبل بالعويل والخوف، ليس لأنه يهدد الدين فعلًا، بل لأنه يهدد نمط السيطرة التقليدية على الفهم والتفسير. النتيجة؟ مجتمع يُربّى على التبعية العمياء، ويربط مصيره الديني بعصا الشيخ لا بعقله وضميره.
النتائج:
- تقويض ثقة الجمهور في الدين والعلماء.
- إجهاض الحركة الفكرية والنقدية.
- تكريس الاستبداد باسم الدين.
معاً نحو فتاوى مسؤولة وإنقاذ العقل الديني
إذا أردنا تحرير الدين من سطوة الخرافة وتحرير الفتوى من قبضة السلطان، فلا بد من:
- فصل مؤسسات الفتوى عن السلطة التنفيذية.
- العودة إلى الاجتهاد العقلاني والرحمة ومقاصد الشريعة.
- تعزيز الثقافة العامة والقراءة النقدية.
إن الفتوى ليست سيفًا يُنحر به الناس، بل أمانة تُترجم بالحكمة والشفافية. وكل أمة تريد النجاة من “لبن مسكوب” عليها أن تعيد لمنطقها الديني بُعده الإنساني والحضاري.
ونواصل..
#إسماعيل_مضوي #فتوى_التمكين #الفتوى_والسلطة #خرافات_المشايخ #الذكاء_الديني #الإسلام_والحداثة #الفتوى_والتقنية
Leave a Reply