القرآن والعروبة: من النزول إلى المشروع الحضاري (5)

صحيفة الهدف

لم يكن نزول القرآن حدثاً لغوياً أو صوتياً فحسب، بل كان لحظة وجودية أعادت تعريف معنى الإنسان في التاريخ العربي. لقد انتقل العرب به من موقع المتلقّي للتاريخ إلى موقع الصانع له، من زمن الأسطورة والقبيلة إلى أفق الأمة والرسالة. إن هذه النقلة ليست ماضياً مقدساً فحسب؛ بل هي أفق مفتوح يطرح سؤالاً لا ينتهي: كيف يتحول النص القرآني من ذاكرة محفوظة إلى مشروع حضاري؟ كيف يُقرأ القرآن، لا ككتاب للتلاوة فقط، بل كبوصلة لفعلٍ تاريخي يواجه تحديات العصر؟

في هذا السياق، قدّم المشروع القومي العربي – وخاصة في فكر البعث – محاولة لإعادة إدخال القرآن إلى ساحة التحرر، بدل أن يبقى رهينة مؤسسة مغلقة. لم يرَ البعث في القرآن سلطة ثيوقراطية أو تشريعاً جامداً، بل نداءً للحرية. في قلب النص القرآني نجد تلك الآية التي تضع الإنسان أمام مسؤوليته. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، (سورة الرعد، الآية 11). إنها ليست مجرد وعظ، بل صياغة فلسفية لفكرة الإرادة الحرة، التي يتجاوب صداها مع مبدأ البعث (الأمة العربية أمة واحدة، ذات رسالة خالدة).

لكن هنا يطرح السؤال الفلسفي نفسه: كيف نضمن أن استلهام القرآن كطاقة تحررية لا يتحول إلى تأسيس (دولة دينية) جديدة تستنسخ الاستبداد باسم الوحي؟ هذه المفارقة هي ما يجعل النقاش ضرورياً. فـ(هابرماس) يرى أن الدين لا بد أن يُترجَم إلى لغة عقلانية مشتركة ليتفاعل مع المجال العام، بينما يذكّرنا (طه عبد الرحمن) أن الحرية الدينية لا تكتمل إلا حين تقترن بمسؤولية أخلاقية. إن المشروع القومي إذًا مدعو ليوازن بين استلهام النص كقوة تحرر، وتجنُّب تحويله إلى أداة وصاية.

حين وصل البعث إلى الحكم في العراق، قدّم نموذجاً عملياً لدمج التراث الإسلامي في مشروعه القومي. فبدل أن يتبنى خطاباً قاطعاً، أعاد توظيف الرموز القرآنية في خطاب التحرير والكرامة الوطنية. ففي مناهج التعليم، جرى التركيز على القيم القرآنية مثل العدل والتضحية والحرية بوصفها مرتكزات قومية، بينما في المجال السياسي جرى تقديم الإسلام كهوية ثقافية وروحية تعزز الانتماء القومي العربي. يوضح ذلك كيف تعامل البعث مع القرآن كطاقة حضارية تستوعب التاريخ وتفتحه على المستقبل، لا كأداة لتأسيس دولة ثيوقراطية.

أما اللغة العربية، فقد حملت القرآن لتتحول من لغة قبيلة إلى لغة حضارة. ليست العربية مجرد أداة للتواصل، بل – كما يقول هيدغر – (بيت الوجود). نزول القرآن بها أخرجها من ضيق الاستعمال اليومي إلى رحابة التعبير الكوني، فكانت وعاءً للفلسفة والعلم والشعر. غير أن خطراً آخر يترصدها، وهو أن تتحول إلى متحف للقواعد والخطابات الطقوسية، بدل أن تكون لغة حيّة قادرة على إنتاج المعرفة. لذلك، فإن النهضة القومية ليست فقط مشروعاً سياسياً، بل هي أيضاً مشروع لغوي، يحرر العربية من سجن التقليد لتعود لغة نقد، وإبداع، وعقل فلسفي.

يغيب في كثير من التحليلات النظرية دور الجماهير في علاقتها بالنص القرآني. فالقرآن ليس كتاب النخبة وحدها، بل هو نصٌ شعبي عاش في وجدان العامة عبر التلاوة اليومية، والاحتفالات الشعبية، والذاكرة الجماعية للأمثال والحِكم. وقد استعاد البعث هذا البعد الاجتماعي، وهو أن يرى في القرآن ليس فقط خطاباً فلسفياً أو سياسياً، بل أيضاً وجداناً جمعياً يكوّن هوية الناس البسطاء، ويغذي خيالهم الأخلاقي. فالتحرير لا يتم فقط بقراءة النخبة للنص، بل حين يصبح النص قوة في الوعي الشعبي، يحرّك الفعل الجماعي ويمنح الناس معنى لحياتهم ومقاومتهم.

وفي مواجهة التراث، لم يكن المشروع القومي يهدف إلى قطع الجذور، بل إلى استعادتها انتقائياً. هنا نجد الفارابي الذي طرح (المدينة الفاضلة) لا كطوبى غيبية، بل كتصور لإمكانية بناء نظام عقلاني عادل. ونجد ابن رشد، الذي حوّل الفلسفة إلى أداة لتحرير العقل من سطوة النقل، مجسداً الصراع الخلاق بين الإيمان الباحث والعقل السائل. ونجد ابن خلدون الذي قدّم علم العمران ليُخرج التاريخ من قبضة الغيب إلى قوانين اجتماعية، مانحاً الأمة أداة لفهم صعودها وسقوطها. ثم الكواكبي، الذي صاغ نقد الاستبداد لا كشتيمة لحاكم، بل كتحليل لبنية مرضية في جسد الأمة. هؤلاء ليسوا (تراثاً) يُحنّط، بل شركاء في حوار مفتوح، يُذكّروننا أن الأمة لا تنهض إلا بالعقل والنقد والشجاعة.

إن هذه الرؤية تضعنا أمام مقارنة كونية، وهي: كما أن الإصلاح البروتستانتي في أوروبا حوّل النص المقدس من سلطة الكنيسة إلى طاقة تحررية مهّدت لولادة الدولة الحديثة، كذلك يمكن للقراءة القومية للقرآن أن تتحول إلى إصلاح عربي يجعل النص مصدراً للقيم الكونية: الحرية، العدالة، الكرامة. ليست القضية إقامة (دولة دينية) تستعيد الماضي، بل إقامة دولة حضارية تستوحي من القرآن أسس المستقبل.

يمكن هنا أن نستفيد من تجربة الإمام محمد عبده، الذي حاول في أواخر القرن التاسع عشر أن يصوغ قراءة إصلاحية للقرآن تربط بين النص والحداثة. فقد دعا إلى تحرير الفكر الديني من الجمود، واعتبر أن القرآن كتاب هداية للعقل والضمير، لا مجرد نص طقوسي. تجربة محمد عبده تلتقي مع الرؤية القومية في سعيها لاستخدام القرآن كقوة تحريرية، لكنها تختلف في أنها ركزت على الإصلاح التدريجي من داخل المؤسسة الدينية، بينما يتجه المشروع القومي إلى توظيف القرآن كرافعة سياسية- حضارية شاملة. الجمع بين هذين البعدين – الإصلاح التدريجي والقفزة القومية – يمكن أن يمنح القراءة البعثية أفقاً أكثر اتساعاً ومرونة.

غير أن تحويل هذه الرؤية إلى واقع يواجه تحديات معقدة. ففي زمن العولمة والهيمنة الاقتصادية والسياسية، تتعرض أي محاولة لقراءة تحررية للقرآن لضغوط مزدوجة: من الداخل، حيث تعيد النخب الدينية التقليدية إنتاج التفسير الجامد الذي يكرّس الاستبداد؛ ومن الخارج، حيث تُحاصر مشاريع النهضة بآليات الهيمنة الاقتصادية والسياسية.
التحدي هنا هو: كيف نصوغ مشروعاً (قرآنياً- قومياً) يملك القدرة على مواجهة هذه الضغوط، دون أن يقع في فخ الانعزال الأيديولوجي أو التبعية العمياء؟

لقد طرح الربيع العربي سؤالاً وجودياً على القراءة القومية للقرآن: كيف نتعامل مع ثورات جماهيرية رفعت شعارات الحرية والكرامة والعدالة، لكنها سرعان ما اختُطفت إما من قوى دينية مغلقة أو من سلطات استبدادية جديدة؟ هنا تبرز الحاجة إلى قراءة للنص القرآني تواكب هذه اللحظة، قراءة ترى في الآية القرآنية (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، (سورة الشورى، الآية 38)، أساساً ديمقراطياً يضفي الشرعية على المشاركة الشعبية، وتقرأ في (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، (سورة هود، الآية 113)، تحذيراً من أي تسوية ترقيعية تعيد إنتاج الاستبداد. بهذا المعنى، تصبح القراءة القومية للقرآن قادرة على تقديم بديل ثالث: لا ثيوقراطية مغلقة، ولا استبداد عسكري، بل مشروع حضاري مفتوح يزاوج بين الحرية والوحدة.

الخاتمة: هنا ليست نهاية، بل بداية لسؤال: كيف نصوغ (قرآنية جديدة) تجعل النص مشروعاً مفتوحاً لا نصاً مغلقاً؟ كيف نجعل العروبة وعاءً حضارياً يترجم رسالة القرآن إلى فعل إنساني معاصر؟ إن المهمة ليست في استعادة شعارات الأمس، بل في استكمال ما بدأه الأسلاف، في تحرير الإنسان العربي باستعادة عقله وإرادته وحقه في أن يكون صانعاً لتاريخه. فالقرآن، في جوهره، لم ينزل ليحبسنا في الماضي، بل ليطلقنا إلى المستقبل.

#القرآن_والمشروع_الحضاري
#العروبة_والبعث
#اللغة_العربية_بيت_الوجود
#التحرر_بالإرادة_الحرة
#محمد_عبده_والإصلاح_القرآني

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.