أ.طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
لم يكن اختيار لفظ (الحُرمة) في العنوان مصادفة لغوية أو زينة بلاغية، إنه استدعاء لمفهوم راسخ في الوعي العربي والإسلامي. الحُرمة هي ما لا يجوز انتهاكه، ما يحظى بمكانة مصونة لا يجوز العبث بها، وما يفرض على الجماعة أن تحميه حماية وجودية. في المقابل، يُطرح هنا بشكل جدلي، كيف تحوّل بعض ثروات الأمة العربية من موارد للنهضة إلى (محرّمات) مفصولة عنها؟ كيف صار النفط العربي، والممرات المائية، والثروة السمكية، والأراضي الزراعية الخصبة، أشبه بـ (أوقاف مغتصبة)، لا يملك الشعب قرار التصرف فيها، بينما تتحكم بها نخب محلية تابعة أو شركات عالمية أو منظومات استعمارية جديدة؟
هنا تتجلى قوة المفهوم: اقتصاد الحُرمة ليس توصيفًا للندرة أو الفقر، بل تشخيص لطبيعة الحرمان. الأمة العربية ليست فقيرة، لكنها محرومًا عليها أن تلمس مواردها، وكأن هناك (مفاتيح غيب) تُدار من خارج إرادتها. هذا البعد الأخلاقي يختلف عن لغة الاقتصاد التقليدي، التي تختزل الأمر في مؤشرات الناتج المحلي أو التبادل التجاري، فهو يعيد صياغة التبعية باعتبارها (حرامًا قوميًّا) يتناقض مع الحق الطبيعي للأمة العربية في السيادة على ثرواتها.
إن قراءة (الموارد المحرمة) تستلزم تشريحًا لثلاث آليات مركزية:
أولاً، الحُرمة بفعل الهيمنة الخارجية: حين تُستنزف موارد الطاقة والممرات المائية لصالح شركات النفط العالمية أو القوى البحرية الكبرى، فإننا أمام حالة استيلاء مقنّع تُقدَّم في صورة عقود وشراكات. لكنه استيلاء يجرّد الأمة العربية من سيادتها الاقتصادية، ويحوّل المورد الاستراتيجي إلى أداة ابتزاز سياسي.
ثانيًا، الحُرمة بفعل الفساد الداخلي: حين تتحول الثروات العامة إلى ملكيات خاصة بيد طبقة طفيلية من السماسرة ورجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، فإننا أمام عملية (تحريم داخلي)، حيث يُغلق باب الوصول إلى الموارد على الأغلبية الساحقة، وتُحوَّل الثروة إلى امتياز طبقي يقتات على حساب المجتمع.
ثالثًا، الحُرمة بفعل السياسات النيوليبرالية: التي صوّرت الخصخصة كطريق إلى التحديث، بينما كانت في حقيقتها آلية (تجريد) الأمة العربية من قطاعاتها الاستراتيجية. فالموانئ، والاتصالات، والخدمات الأساسية انتقلت إلى يد الشركات المتعددة الجنسيات، فأصبح المواطن يشتري ماءه وكهرباءه وخدماته الصحية بتكلفة تتجاوز طاقته، من ثروةٍ كان من المفترض أن تكون (حقًّا عامًا).
بهذا يصبح اقتصاد الحُرمة توصيفًا دقيقًا لواقع عربي يعاني ليس من غياب الثروة، بل من مصادرة الحق في الوصول إليها.
لكن المقال لا يقف عند التشخيص، بل يتجه نحو تأسيس مفهوم (التحرير الاقتصادي) كجزء لا يتجزأ من المشروع القومي. فالتحرير هنا ليس مجرد استرجاع للموارد، بل هو إعادة تعريف لمنطق الاقتصاد نفسه:
• التحرير يعني الانتقال من اقتصاد الاستهلاك إلى اقتصاد الإنتاج، بحيث يُستثمر النفط والغاز والفوسفات في بناء قاعدة صناعية وزراعية تعزز الاكتفاء الذاتي.
• التحرير يعني استرداد الممرات المائية والموانئ لتكون أدوات تكامل قومي، لا ممرات تحت إشراف القوى الدولية.
• التحرير يعني إعادة تعريف الملكية العامة باعتبارها (وقفًا قوميًّا)، لا يُترك للنهب أو الخصخصة، بل يُدار بآليات شفافة تحقق العدالة.
• التحرير يعني ربط القرار الاقتصادي بالقرار السياسي المستقل، إذ لا سيادة اقتصادية بلا سيادة سياسية.
وهنا يظهر البعد الفلسفي: كما أن (الحرام الشرعي) في الدين هو ما يمنع الضرر عن الإنسان والمجتمع، فإن (الحرام القومي) هو كل ما يُسلب من الأمة العربية ويُمنع عنها رغم كونه حقًّا لها. وكما أن (الحلال) يعيد للإنسان حريته في الفعل، فإن (التحرير) يعيد للأمة العربية حريتها في التصرف بثرواتها.
إن المشروع القومي لا يمكن أن يقوم على شعارات سياسية مجردة دون قاعدة اقتصادية محرّرة. فالتحرر السياسي بلا استقلال اقتصادي هو مجرد استقلال شكلي، والاقتصاد الخاضع للحرمان والاحتكار سيعيد إنتاج التبعية مهما رفعت الشعارات.
بهذا المعنى، فإن اقتصاد الحُرمة ليس مجرد وصف نقدي، بل هو دعوة لتأسيس فقه اقتصادي جديد، يزاوج بين البعد الأخلاقي للحرام والحلال والبعد السياسي للتحرر والهيمنة، ويضع الاقتصاد في صميم معركة الوجود القومي.
فالأمة العربية، التي تملك أكبر احتياطيات النفط والغاز، وأخصب الأراضي الزراعية، وأطول الممرات المائية، وأوسع الأسواق الاستهلاكية، لا تعاني من فقر الموارد، بل من (حرمانها) عنها. ومهمة التحرير ليست في استخراج الثروة فحسب، بل في انتزاع مفاتيحها من أيدي الخارج والداخل معًا، وإعادتها إلى فضاء الأمة العربية كحق جامع غير قابل للتجزئة.
إننا أمام معركة ليست تقنية ولا اقتصادية فحسب، بل معركة وعي ومبدأ. فإما أن تبقى مواردنا (محرّمة) علينا في سوق الهيمنة والفساد، وإما أن نعيدها إلى (الحِلّ القومي)، لنقيم بها أساس النهضة والتحرر.

Leave a Reply