“القطية”.. بيت من قش وروح من وطن

صحيفة الهدف

يوسف الغوث

ملف_الهدف_الثقافي

الظروف البيئية الفريدة في السودان أفرزت أنماطًا ثقافية ومعمارية ذات ارتباط وثيق بالتراث، وكان من أبرزها القطية، ذلك المجسم المعماري المتميز الذي لا يزال يمثل خصوصية وتفرد العمارة السودانية. فهي ليست مجرد مأوى، بل منظر جمالي خلاب، ومثال حي على عبقرية الإنسان السوداني في التكيف مع بيئته عبر قرون طويلة.

القطية، التي تعني في اللغة العربية “تجميع الأشياء واتحادها”، تنتشر في الشرق والغرب وعموم كردفان ودارفور وحتى جنوب السودان. ذات شكل مخروطي، تُحدد أبعادها ومساحتها حسب المكانة الاجتماعية لصاحبها، كما يتأثر تصميمها بالطقوس الممارسة داخلها. وقد أبدع البناء الشعبي في جعلها باردة وجيدة التهوية صيفًا، ودافئة شتاءً بفضل استخدام القش ومواد طبيعية أخرى تتوافق مع عوامل الطقس ودرجات الحرارة، وكأن المجتمع السوداني سبق إلى ما يعرف اليوم بمفهوم “العمارة البيئية”.

من مميزات القطية أيضًا أن تكلفة إنشائها بسيطة ومناسبة للسكان، إذ تعتمد على خامات محلية متوفرة، كجذوع الأشجار وأغصانها وأليافها، ما يجعلها خيارًا عمليًا لا يثقل كاهل أهل الريف اقتصاديًا. فهي تمثل نموذجًا معماريًا يجمع بين البساطة والوظيفة، دون حاجة لتكاليف باهظة أو مواد مستوردة.

أما من حيث البناء، فيتم على مرحلتين: الأولى هي “السوجة” الدائرية المصنوعة من سيقان الأشجار، تليها “الكارة”، حيث تُثبَّت السيقان رأسيًا قبل أن يُرص القش بشكل منتظم. ويشارك في عملية التشييد غالبًا جميع أفراد المجتمع في ما يُعرف بـ”النفير”، رغم وجود بناة مختصين في هذا المجال.

تتنوع القطاطي من حيث الشكل والحجم: فهناك “ضهر الثور” وهو الأكبر، ويخصص عادةً للعمد والشراتي كمجلس لاستقبال الضيوف، وهناك “الدردر” الصغير، الذي يمثل عش الزوجية للمتزوجين حديثًا. وفي كردفان، يُعد تشييد قطية الزوجية شرطًا تقليديًا تفرضه أم العروس على العريس، في دلالة على رسوخها كجزء من الثقافة الاجتماعية الأصيلة.

خلال الحقبة الاستعمارية، تبنى الإنجليز هذا الطراز المحلي وشيدوا قطاطي لسكن عمال السكك الحديدية، غير أنهم استخدموا الأسمنت والخرسانة بدلًا عن المواد الطبيعية. ولأنها متوافقة تمامًا مع البيئة، فهي لا تضر بالمحيط الطبيعي، بل تقوم على إعادة توظيف عناصره، مثل القش وألياف الأشجار، مما يجعلها نموذجًا مبكرًا للعمارة المستدامة.

أما مستقبل القطية في ظل تطورات الريف السوداني، فيكمن في إمكانية تطويرها بدمج عناصر الحداثة مع المحافظة على روحها التراثية. فقد تتحول إلى نماذج سياحية أو مراكز ثقافية تعكس الهوية الوطنية، أو حتى بيوت معاصرة تجمع بين الطابع الريفي والاحتياجات الحديثة. وهنا تبرز أهمية أن نحافظ على هذا التراث، لأنه لا يمثل مجرد بناء، بل يعكس روح أمة قاومت الاندثار وحافظت على أصالتها في وجه الحداثة المستهجنة.

ختامًا، تظل القطية أيقونة للهوية السودانية، تروي قصة العمارة التي ولدت من رحم البيئة، وتؤكد أن الجمع بين الأصالة والحداثة هو سر بقاء الأمم وخلود ثقافتها.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.