حين يُزوّر المنتصر التاريخ: النوبة أولى من الفراعنة

عبد المنعم مختار

#ملف_الهدف_الثقافي

منذ أن بدأ علماء الآثار والتاريخ والأنثروبولوجيا في تفكيك ألغاز الماضي، تكشّف لهم أن النشأة الأولى للحضارة لم تبدأ من مصر الفرعونية كما يُروَّج، بل من السودان، من أرض النوبة وكوش. فالادعاء بأن أهرامات الجيزة هي نقطة البداية ليس سوى سردية كتبها المنتصرون، فيما تقول الشواهد الأثرية غير ذلك: أن البداية كانت من المنبع، من الضفة السودانية للنيل، حيث خطّ الإنسان أول ملامح الدولة والمعمار.

الأهرامات البجراوية في شمال السودان تبدو أصغر حجمًا من أهرامات مصر، لكنها الأسبق زمنًا، والدليل الأوضح على أن السودان هو الأصل وأن مصر ليست إلا استمرارًا لذلك الأصل. فملوك كوش ونبتة ومروي لم يكتفوا بإرساء حضارتهم على ضفاف النيل، بل غزوا مصر وحكموها في الأسرة الخامسة والعشرين، لتصبح مصر الفرعونية ممصَّرةً بنفوذ نوبي دام عقودًا. وتذكر المصادر أن أحد ملوك النوبة شن حملة على مصر بعدما بلغه أن الفراعنة أساؤوا معاملة الخيول، رمز الكبرياء في الثقافة النوبية، فكان ذلك الشرارة التي نقلت الحكم إلى الكوشيين ردحًا من الزمن.

الأدلة لا تقف عند حدود المعمار والسيطرة السياسية، بل تمتد إلى تفاصيل الجسد الإنساني. فالمومياوات المحفوظة في متاحف مصر تكشف ملامح أقرب إلى النوبة منها إلى غيرها: بشرة داكنة، أنوف عريضة، ووجوه تنطق بالانتماء الإفريقي العميق. والأدهى أن أغلب التماثيل الفرعونية التي وُجدت مكسورة الأنوف، في إشارة يقرأها كثيرون كجهد متعمّد لطمس سمة مميزة من ملامح نوبة السودان.

هكذا تتضافر الشواهد: الحضارة تبدأ من المنبع أولًا، أهرامات البجراوية الأسبق، ملوك النوبة الذين حكموا مصر، المومياوات التي تشهد بلون بشرتها وملامحها، والتماثيل التي فقدت أنوفها لتمحى منها البصمة الإفريقية. كلها تقول إن السودان هو أصل الحضارة، وإن ما يُروَّج عن مصر بوصفها نقطة البدء ليس سوى إعادة صياغة للتاريخ على مقاس المنتصرين.

لقد آن الأوان لأن يُعاد الاعتبار للسودان لا كـ”هامش” في قصة النيل، بل كصفحة أولى في كتاب البشرية. فمن كوش خرج الضوء الأول، ومن النوبة انبثقت البذرة التي صنعت الدولة والدين والفن، قبل أن تُنسب لاحقًا إلى مصر وتُروى بأقلام الغزاة والمستعمرين. أما الحقيقة، فهي أن التاريخ مزوَّر ما لم يُقرأ من منبعه السوداني.