
أ.د.شادية أحمد لازم
#ملف_الهدف_الاقتصادي
مقدمة: مرض الحمى القلاعية (Foot-and-Mouth Disease – FMD) هو أحد الأمراض الفيروسية شديدة العدوى التي تصيب الحيوانات ذات الحوافر المشقوقة، ويشكل تهديدًا كبيرًا للثروة الحيوانية والأمن الاقتصادي في السودان. يُقدّم هذا التقرير نظرة علمية شاملة حول المرض، مع التركيز على احتمالية انتقاله إلى البشر، وتأثيره الاقتصادي المباشر وغير المباشر على المزارعين والاقتصاد الوطني.
ورغم ندرة انتقال المرض إلى البشر، إلا أن الخوف المجتمعي من استهلاك منتجات الماشية أثناء التفشيات يؤدي إلى خسائر إضافية في الطلب المحلي. كما يمثل انتشار المرض تهديدًا مباشرًا للأمن الغذائي في السودان، حيث تعتمد نسبة تتجاوز 70% من السكان على الثروة الحيوانية كمصدر رئيسي للغذاء والدخل.
الخلفية العلمية عن المرض:
ينتمي فيروس الحمى القلاعية إلى عائلة Picornaviridae، جنس Aphthovirus، ويتميز بتعدد أنماطه المصلية (Serotypes) مثل O, A, C, SAT1, SAT2, SAT3 ، والتي تختلف توزيعاتها الجغرافية. يتسبب الفيروس في ظهور أعراض سريرية شديدة لدى الحيوانات المصابة، تشمل:
– تكوّن حُقَانات وفقاعات في الفم وعلى القدمين.
– سيلان اللعاب الغزير.
– انخفاض حاد في إنتاج الحليب.
– فقدان الوزن وضعف النمو.
– نفوق العجول الصغيرة بسبب اعتلال عضلة القلب.
وتتشارك دول حوض النيل والقرن الإفريقي التحديات ذاتها، حيث تُظهر الدراسات الإقليمية أن أنماط SAT2 و- هي الأكثر انتشارًا، مما يستدعي تنسيقًا إقليميًا في التحصين والمراقبة.
الوضع الوبائي في السودان:
يُصنف السودان كمنطقة متوطنة لمرض الحمى القلاعية، حيث تُسجل تفشيات سنوية متكررة، خاصة خلال الفصول التي تشهد حركة نشطة للماشية (موسمية الانتشار). أظهرت الدراسات الوراثية لعزلات فيروسية جمعت بين عامي 2009 و2018 تداول السلالات SAT2, O, A في السودان، مما يعكس تواصلًا وبائيًا مع دول الجوار عبر حركة التجارة غير المنضبطة والمعابر الحدودية.
تشير تقارير وزارة الثروة الحيوانية إلى أن معدلات الإصابة السنوية قد تصل إلى 30–40% من القطيع في بعض المناطق، ما ينعكس مباشرة على الإنتاجية والصادرات.
إمكانية الانتقال إلى البشر:
انتقال فيروس الحمى القلاعية إلى البشر نادر جدًا، ولم تُسجل سوى حالات محدودة على مستوى العالم، معظمها مرتبط بـ:
– التعامل المباشر مع حيوانات مصابة (مزارعون، أطباء بيطريون).
– التعرض لسوائل الآفات أو اللعاب من حيوانات مريضة.
– استهلاك حليب غير مبستر من أبقار مصابة.
الأعراض لدى البشر (في الحالات النادرة) تكون خفيفة وتشمل:
– حمى طفيفة.
– آفات جلدية أو فموية مؤقتة.
– التهاب طفيف في الأغشية المخاطية.
لا يُعتبر المرض تهديدًا للصحة العامة، ولا توجد أدلة على انتقاله بين البشر.
التأثير الاقتصادي:
يُسبب المرض خسائر اقتصادية جسيمة يمكن تقسيمها إلى:
الخسائر المباشرة:
– انخفاض إنتاج الحليب بنسبة 50–60% خلال فترة التفشي.
– نفوق العجول الصغيرة (معدل النفوق يصل إلى 20% في الحالات الشديدة).
– فقدان الوزن وانخفاض كفاءة التحويل الغذائي.
الخسائر غير المباشرة:
– تكاليف العلاج والرعاية البيطرية.
– فرض قيود على حركة وتجارة الماشية.
– فقدان فرص التصدير إلى الأسواق الدولية الخالية من المرض.
– انخفاض الخصوبة والإنتاجية طويلة الأمد للقطيع.
في تفشي عام 2008 في ولاية الخرطوم، قُدرت الخسائر الإجمالية بحوالي 1.77 مليون دولار أمريكي، معظمها ناجم عن انخفاض إنتاج الحليب.
لا تقتصر الخسائر على المزارع الفردية، بل تمتد إلى الاقتصاد الكلي عبر انخفاض مساهمة قطاع الثروة الحيوانية، الذي يمثل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع القدرة التنافسية للصادرات السودانية في الأسواق الخليجية والإفريقية.
استراتيجيات المكافحة والوقاية:
التحصين الدوري:
– استخدام لقاحات مُطابقة للسلالات المحلية (مثل SAT2 بعد إجراء اختبارات مطابقة Antigenic.
– تعزيز سلسلة التبريد للحفاظ على فعالية اللقاحات.
الترصد والمراقبة:
– تطبيق نظام ترصد نشط وسلبي للكشف المبكر عن التفشيات.
– استخدام اختبارات NSP-ELISA للتمييز بين الحيوانات الملقحة والمصابة.
إجراءات الطوارئ:
– عزل الحيوانات المصابة وتطبيق تطعيم حلقي (Ring Vaccination) .
– فرض قيود على حركة الماشية في المناطق الموبوءة.
التوعية وبناء القدرات:
– توعية المزارعين بأهمية بسترة الحليب والإبلاغ الفوري عن الحالات.
– دعم المختبرات الوطنية بقدراتPCR ، التسلسل الجيني، والاختبارات المصلية.
التعويضات والحوافز:
– تطبيق آليات تعويض عادلة للمزارعين المتضررين لتشجيع الإبلاغ الصريح. إلا أن تطبيق هذه الاستراتيجيات يواجه تحديات تتعلق بضعف التمويل الحكومي، قصور البنية التحتية البيطرية في المناطق الريفية، وغياب قاعدة بيانات وطنية دقيقة للقطيع.
التوصيات:
– إجراء مسوحات مصلية دورية لتقييم المناعة السكانية ومستوى التفشي.
– تعزيز التعاون الإقليمي مع دول الجوار لمراقبة حركة الماشية وتنسيق الجهود.
– الاستثمار في مختبرات وطنية متخصصة لتشخيص الفيروس وتتبع تحوراته.
– تطوير استراتيجيات تحفيزية للمزارعين للمشاركة في برامج المكافحة.
ينبغي دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في نظم الإنذار المبكر، وتوظيف نظم المعلومات الجغرافية (GIS) لتتبع حركة القطعان. كما يمكن للسودان الاستفادة من مبادرات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) والاتحاد الإفريقي لتعزيز قدراته في السيطرة على المرض.
الخلاصة:
الحمى القلاعية تمثل تحديًا صحيًا واقتصاديًا كبيرًا في السودان بسبب طبيعتها المتوطنة وتأثيرها على سلسلة القيمة الحيوانية. انتقالها إلى البشر نادر، إلا أن تأثيرها على الاقتصاد والثروة الحيوانية يتطلب تطبيق استراتيجيات مكافحة متكاملة تعتمد على التحصين، الترصد، والتعاون الإقليمي.
“مستقبل السيطرة على الحمى القلاعية في السودان يتطلب تحولًا من إدارة الأزمات إلى بناء استراتيجية وطنية شاملة، تُدمج فيها الصحة الحيوانية بالصحة العامة والاقتصاد (نهج الصحة الواحدة One Health)، بما يعزز الأمن الغذائي ويضع السودان على خريطة التجارة الحيوانية العالمية.”
Leave a Reply