
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
لا شيء يهدد جوهر الدين في ضمير الأمة أكثر من تحوله إلى غطاء سياسي أو أداة تجميل لسلطة ظالمة. حين يعلو صوت الوعّاظ في المنابر لا ليبشّروا بالحرية والعدالة؛ بل ليبرروا الطغيان أو يزيّنوا الواقع المرير، يتشوه معنى الدين نفسه. وهنا يطل السؤال الجوهري: من يتحدث باسم الدين؟ ولصالح من يتحدث؟
منذ استقلال الأقطار العربية وحتى اللحظة الراهنة، تكشف التجربة التاريخية عن ثنائية مشوهة: حاكم يرفع شعار (القيم الإسلامية) لتثبيت حكمه، وواعظ يشرعن هذا الحكم باسم (الطاعة) و(درء الفتنة)، فيما الجماهير تعيش التناقض اليومي بين خطب الجمعة وحقائق المعيشة، بين وعود الجنة على المنابر وواقع الجوع في البيوت، بين الإله الحيّ في القلوب و(الإله المصنوع) في خطاب السلطة.
في مثل هذا المناخ نشأ ما يمكن تسميته بـ(التدين الاصطناعي)، تدين استعراضي لا ينبع من جوهر الرسالة، بل يُفصَّل على مقاس الحاكم. تدين يختزل الدين في مظاهر استهلاكية ويجرده من بعده التحرري. وقد أشار الأستاذ ميشيل عفلق مبكرًا إلى هذا الانحراف حين قال (الدين إذا لم يكن قوة تحرر، فإنه يصبح دينًا مزيفًا)، في إشارة إلى أن الدين الذي يفقد صلته بالحرية يتحول إلى أداة للاستتباع لا للتحرر.
وقد تجلى هذا التشويه بوضوح منذ صعود (الواعظ السياسي) بعد الثورة الإيرانية وصعود الحركات الإسلاموية. صار الواعظ يتحدث باسم السماء، لكنه يسكت عن ظلم الأرض. يملأ البطون كلامًا حين تجوع، والعقول وعودًا حين تُقهَر. وازدهرت صناعة كاملة من الإعلام والمؤسسات الدعوية، صاغت خطابًا دينيًا جماهيريًا استهلاكيًا، يعتمد على دغدغة العاطفة الدينية لا على تحرير الوعي. لقد أصبح الدين – في كثير من الحالات – منتَجًا إعلاميًا أكثر منه مشروعًا إنسانيًا.
في مواجهة هذا الانحدار، يقدّم الخطاب القومي التحرري رؤية بديلة، حيث أشار الى أن الدين ليس خصمًا للحرية، بل لا يتحقق الإيمان إلا بها. فالإسلام – كما أكد الأستاذ ميشيل عفلق – لا يحتاج إلى حماية من الاستبداد، بل يحتاج الإنسان إلى الحماية من تحريفه. الدين، في هذه الرؤية، ليس شعارات تُستدعى في الأزمات، بل طاقة أخلاقية عميقة ترفض الظلم باسم التوحيد، وتبني مشروع نهضة يجعل من الإنسان قيمة عليا وفاعلًا حرًا.
لقد سئم الشعب العربي من ازدواجية الخطاب: سياسي يرفع المصحف في الليل ويقصف المدن في النهار، وواعظ يتحدث عن الجنة في الآخرة ويصمت عن الجحيم في الحاضر. والحل لا يكمن في نزع الدين من الحياة العامة، ولا في تسليمه للسلطة، بل في إعادته إلى مجاله الأصيل، قوة تحرر وكرامة، لا غطاء هيمنة واستبداد.
إن المشروع القومي الأصيل يرفض أن يكون الدين طقوسًا تُستدعى للمناسبات، أو شعارًا للاستهلاك السياسي. إنه ينظر إليه باعتباره روحًا أخلاقية حية تتغلغل في مشروع النهضة، توحّد بين الإيمان والعقل، بين الرسالة والتحرر، وتجعل من الإنسان خليفة في الأرض، لا تابعًا لحاكم ولا عبدًا لواعظ.
Leave a Reply