
جمال غلاب
#ملف_الهدف_الثقافي
عندما مات السر تناسى بعض شباب الحله ورجالها بغضهم لشقيقه الواثق، وشمّروا السواعد ناذرين أنفسهم للقيام بالواجب على الوجه المطلوب. بعد العودة من المقابر وأثناء جلوسي مع بعض الرجال، لمحت بطرف خفي أن الواثق لا يبذل جهدًا يُذكر لتغيير صورته التي رسخت في الأذهان؛ فها هو يحرص على أن يشيح بملامحه الصلدة عن ناس الحله، ويسدّ كل المنافذ التي قد تسمح لهم بأن يتعاملوا مع المأتم كما لو كان مأتمهم. وتذكرت وأنا أتابع هرولته نحو رئيس الدائرة التي نقطنها، والذي لم يُدرك الدافنة لكثرة مشغولياته، كيف أنه صرف حاج الأمين ـ جاره الجنب ـ بجلافة لا مثيل لها عندما سأله الرجل الشيخ مستفسرًا عن المدة التي سيستغرقها نصب سرادق العزاء.
ربما شعوري تجاه الواثق قد ضاعف من نهوض صورة السر في خيالي. السر رجل من عالم آخر، والدموع التي ذرفناها عليه إنما هي دموع على ذلك العالم الذي تكاد قساوة تفاصيل الواقع تُقنعنا بأن لا وجود له إلا في التوهمات والأضغاث. لكن رجالًا من أمثال السر كانوا قادرين على فعل ما هو أكثر من التنبيه إلى حديقة محجوبة خلف تلال من القمامة والمستنقعات الآسنة. أتذكر الآن المعركة الشهيرة التي خاضها السر معنا ضد شقيقه، والتي تمكّن فيها من إحباط محاولاته لتحويل نادي فريق الحلة (الرمح الملتهب) إلى مبنى يخص مشروعًا غامضًا ينادي به جماعة الواثق الذين كانوا قد استولوا على الحكم لتوّهم. وقد صرف الواثق نظره عن الفكرة ساخطًا على أخيه، وصرف النظر عن تحقيق أمجاد يُعتدّ بها في حلة مهملة مثل هذه، والأكيد أن دروبًا أخرى انفتحت أمامه هي التي أوصلته إلى ما هو عليه اليوم من غلظة وفظاظة لا يسعى إلى إخفائها، رغم مستنقع الثراء العريض الذي يعوم فيه والذي لم يُفلح في ابتلاع الفارس الذي ترجّل فجر اليوم.
رغم كل ما أبداه الواثق من جفاء في التعامل معنا، أصررنا نحن رجال الحله وشبابها على البقاء في السرادق التي أخذت تضيق شيئًا فشيئًا بالأمناء والمنسقين ورؤساء القطاعات. ووجدت نفسي أتشبث بمقعدي في الركن عازمًا على المكوث حيث أنا، عالمًا بأن الروح الشفافة تتحاوم في فضاء السرادق وستلومنا إذا ما تخلّينا عن القيام بالواجبات التي اعتدنا القيام بها في أفراح هذه الحله وأتراحها.
عند الأصيل كنا نجلس عند مدخل الخيمة، وكان الواثق قد أحالنا إلى العطالة باستخدام مجموعة من الشبان الغرباء تولّوا الإشراف على خدمة المعزين، وكأن الأمر يتعلق بخدمة النزلاء في الفنادق التي تُقاس عظمتها بعدد النجوم. كنا ساخطين، وليس في نية أحدنا مغادرة هذه الخيمة المنصوبة لوداع راحل عزيز، وبينما نحن على جلستنا تلك أقبلت ثلاث سيارات بيضاء جديدة من النوع الذي بات الناس يطلقون عليه (رضا الوالدين) و(احفظ مالك). سدّت تلك السيارات مدخل الزقاق وتأخر ركابها في مغادرتها، ولم نتبين هوياتهم وهم خلف الزجاج المظلل، وما كان الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء لنعرف أن جماعة من عيار أثقل قد حلّوا.
بعد أن شالوا الفاتحة، انعزل الرجال الذين لفت حضورهم الأنظار في ركن من السرادق، وكانوا متشابهين في السمت والزي تحسبهم للوهلة الأولى إخوانًا، بل إن الإمعان في النظر يكاد يجعل الرائي يجزم أن بعضهم توائم. يجمع بينهم أن بياض جلاليبهم شديد النصوع، والعمائم على رؤوسهم بالغة الإحكام، كما أن لحية كل واحد منهم حالكة السواد تتوسطها غُرّة بيضاء يكاد موقعها عند هذا لا يختلف عن ذاك، هذا غير النظارات بزجاجها النظيف وفريماتها البراقة، والأخفاف على الأقدام لا أثر للغبار والكدوب عليها.
حضورهم أغرق السرادق في صمت دام لسويعات ما لبث بعدها أن تصاعد الهمس ليستحيل بعد قليل ضجة صغيرة تتخللها نداءات لجلب الشاي هنا وتوزيع كاسات الماء هناك، وظل عدد مقدّر من المعزين يختلس نظرات سريعة تجاههم، بينما هم مستغرقون في الجلوس الواثق المطمئن، لا يتبادلون حديثًا، كأنهم طربوا للنظرات التي يتلصص بها الناس صوبهم.
توسطهم الواثق هاشًا باشًا، وهو الذي لا يكلمك إلا بعد نظرة حقارة بائنة يحدجك بها، كأن وجودك خطأ كوني يسعى إلى تصحيحه. هذا إذا حدثك، فهو طالما اكتفى بتلك النظرة في تعاملنا الاضطراري معه، فرمينا طوبته وبِتنا نتجنب التعاطي معه، ولولا المحبة التي في قلوبنا للسر، لما اجتمعنا به في مكان واحد.
بدا متبسطًا مع أصحاب الجلاليب الناصعة، فكأنه نسي أن المقام لا يصلح لاستعراض العضلات والتمكّن بهذه الطريقة التي لا ندري من أين تعلّمها، وهو الذي رضع من ذات الثدي الذي أرضع فقيدنا الذي يتفاقم إحساسنا بفداحة خسارتنا له ساعة إثر ساعة.
تمغنطت المنطقة التي احتلوها وتكهربت، ولم يبق إلا أن تنهض لافتة مكتوب عليها: ممنوع الاقتراب والتصوير. وما عدنا بحاجة إلى النظر صوبهم لنعلم أنهم لا يهمهم سوى أن يُشيعوا في الجو والنفوس أنهم يتوفرون على سطوة قارسة، وسلطة حارقة، وقدرة على التلاعب بالخلائق والأشياء بأفضل مما يقوم به الحواة. هذا كله يسنده تمرّس في الإيذاء لا حدود له، ورغبة فيه أحلك من كل بحار الظلمات التي قد تَعِنّ لأخيلتنا. ولأن أغلبنا كثيرًا ما يصادف أمثال هؤلاء الرجال في أحوال متباينة من ضَربه في الأرض وفي مقامات غير المآتم “حيث نكون نسبيًا ـ ونسبيًا فقط ـ في مأمن مما قد تتفتق عنه عقولهم الفتاكة في ابتداع أساليب مذهلة في التحقير والإذلال وقطع الطريق على ما يجعلنا نتمسك بآدميتنا”، فقد بقينا حيث نحن يزداد اليقين في نفوسنا أن من ولغ في الحرام وباع روحه للشر، تكثر توجساته وتقلّ مُروءته، فيخال العالم كله أحراشًا، فلا يملك إلا المبالغة في التثعبُن ويتقرصن في كل صغيرة وكبيرة من شؤونه، ويتربص بكل شيء لعميق إحساسه بأن كل شيء يتربص به، وتنمو أزهار الشر حيثما حلّ وارتحل.
تمايزت الصفوف، ولحكمة يعلمها الخالق فقد أطالوا المكوث والتحصّن بمنطقتهم المحظورة، فكانوا يُمسدون لحاهم في رفق وهم ينظرون للخلائق من علٍ، ويشيحون بوجوههم عن الشبان الذين تكالبوا على خدمتهم. بينما جلسنا حيث نحن بعرارقينا الشربانة ووجوهنا الغبشاء، نترحم على السر، ونسأل الله أن يرفع البلاء وأن يتلطف بنا، وألا يسلّط علينا من لا يخافه ولا يرحمنا. سبحانه جلّ وعلا له ملك السماوات والأرض. وكانت تضرعاتنا الصامتة أشبه بنظرة الحمل ساعة يُطبق عليه الذئب ويسدّ بوجهه الآفاق. وبينما نحن على ذلك الحال، إذ سمعنا جلبة تصدر من المنطقة المحظورة، فلما التفتنا أبصرنا ود النور متشبثًا بعنق الواثق وهو يهدر بكلمات لم يكن تمييزها سهلًا لأن الجلبة استحالت ضوضاء وساد الهرج والمرج. وجاء نفر من الشبان القائمين على الخدمة وخلّصوا عنق الرجل من قبضة الكهل النحيل الذي أخذ يتنافض وهو يهدر بالكلام المتداخل بعضه في بعض.
قد يكون الواثق ـ كعادته قد تجاهل الكهل النحيل الذي علم بأمر العزاء متأخرًا، ومن الجائز أنه أشاح عنه بوجهه عندما أقبل صوبه رافعًا كفيه بالفاتحة. وأيًا كان الأمر فإن الواثق قد بدر منه ما أخرج الكهل عن طوره، وقد تصاعد الأمر بأن صاح فينا ود النور بأن لا حاجة لنا بهذا الواثق الحقود، وأمرنا بأن نتحرك من فورنا لنصب سرادق العزاء في النادي. وما إن صدر الكلام عن الرجل الغاضب حتى نهضنا جميعًا في اللحظة ذاتها، كأننا كنا ننتظر ذلك، واتجهنا جميعًا إلى دار الجمعية الخربة لنصب سرادق للفقيد لا تشبه هذه التي لا ندري من أين جاء بها الواثق، وشددنا الخُطى في حماس وتصميم، فالفقيد فقيدنا.
Leave a Reply