
د.أشرف مبارك أحمد
#ملف_الهدف_الثقافي
اليوم أعددت أسلحتي، وقررت المواجهة. كل محاولاتي للهرب كانت تنتهي بالفشل وآخرها كانت قبل يومين. جذبني من ياقة قميصي بعنف وقال: لن تستطيع الهرب. جلست على كرسي في مواجهة باب الشقة. جهزت أسلحتي.. مطرقة، وأوتادًا، وحبلًا، وشريطًا لاصقًا، مثل الذي يستخدم في العمليات الجراحية. كفّاي تنضحان بالعرق. وخوفٌ مما أنا مقدمٌ عليه يزلزل كياني ويشتت تفكيري. حاولتُ تثبيت نفسي بتلاوة بعض الدعاء، عسى أن تكون هذه المحاولة الأخيرة.
قبل يومين توجهت إلى محطة القطارات، وابتعتُ تذكرة في القطار الليلي المتوجه إلى المدينة الكبيرة.. فكرت كثيرًا في أن أعود لأجمع أغراضي، لكني فضلت أن أبقى في انتظار القطار خوفًا من أن يلحقا بي ويعيداني إلى دائرة سلطانهما. وأخذتُ أتخيل العالم بدونه.. ظل يلازمني منذ أن بلغتُ الحلم.. احتل حياتي، وغيَّب إرادتي.. وتخيلتُ العالم بدونها تلك التي سرّبها الظل إلى حياتي دون إذن مني، وسحرني بسحرها.. ساحرة.. العالم بدونها لا طعم له.
وتحرك القطار. وبدأ اهتزازه الذي أحببت. لم تثنني ثرثرة العجوز المخمور الذي كان يجلس أمامي من الاستلقاء للنوم. سألني إن كان بلدي أجمل أم هذا البلد فأجبته وعيناي مغمضتان بمثل شائع عندهم: كل بلاد الدنيا تكون جميلة إلا إن الوطن دائمًا أجمل. وقلت في نفسي حتى ولو لم تكن فيه.. وخفت من ذكر اسمها حتى ولو بيني وبين نفسي.. ونمت، حلمت بالعالم الجديد وصحوت على وصول القطار، وغادرت العربة، فوجدته يقهقه في وجهي وفي عينيه نظرات عاتبة وساخرة ويقول لي: لن تهرب مني، لأنني أكون في كل مكان تكون فيه. ثم ضحك وقال: أنت لا تعرف، كنت أراقبك طوال الليل في القطار وقلت لنرى نهاية الأمر. حاولت الدخول إلى محطة المترو لعلني ألوذ بزحامها، لكنني كلما خطوت خطوة وجدته أمامي، واستسلمت، وبدأت رحلة العودة، وكانت في استقبالي.. ساحرة لها سحر خاص بها، فاتنة وفتنتها خاصة بها، سعيدة بعودتي. وفي الشقة مسحتْ على شعري بحنان، وقالت: لا بد أنك مشتاق إلى أهلك. أغمضت عيني وقلت: ومشتاق إلى نفسي.. أخضع له تمامًا حينما أستسلم لانتهاكها حدود نفسي وجسدي.. فتحت عيني فوجدتها تنظر إليه وكفها الناعم الرقيق يربت على رأسه وهو مستلق يضع ساقًا على ساق ويحرك يديه كأنه يمسك بخيوط يجذب بها شيئًا.. رائحتها كانت ترتع في أنفي، وعبق مثبت الشعر النفاذ يتسرب من خياشيمي إلى رأسي، فيسكرني. طرق سمعي صوتها الحنون.. فيم جلوسك قرب الباب؟ وما كل هذه الأشياء؟ لقد أحضرت كعكة وبعض الفطائر وحالًا سأعد الشاي وأجهزة المائدة. كانت تغمرها فرحة غير عادية، وابتسامة عريضة تحتل أغلب وجهها، ربما كانت فرحة بما جلبت من السوق. الغريب أنني لم أنتبه حين فتحت الباب. كيف دخلت؟ لماذا لم يأت معها؟ لا بد أنه منزو في ركن من الأركان فهو يكون حيث أكون. منذ أن بلغت الحلم وهو يرافقني، وربما منذ أن كنت كتلة طرية في حضن أمي لا أستطيع تمييز الأشياء. وعندما تعلمت الأسماء وميزت الأشياء شعرت به كيانًا يوازي كياني، وقوة أكبر من قوتي، وعقلًا له من الذكاء أكثر مما لعقلي.. أظنه يعرفني جيدًا بقدر جهلي به. طالما تلفت باحثًا عن مفر، وتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وكثيرًا ما جريت وأنا مملوء رعبًا.
قالت لي: انتبه للماء في السماور. ودخلتْ الحمام. ارتعشتْ يداي وأنا أسمع صوت الماء وهو يغلي مختلطًا بصوت سقوط الماء من الدش في الحمام.. اندفع الدم إلى عروق رأسي بقوة، وأحسست بنبضها مثل صوت تدافع عجلات القطار على القضبان.
عرفتها ذات يوم كان ينقر فيه على رأسي ليمنعني النوم. كنت عائدا من مدينة ساحلية حيث قضيت عطلة الأول من مايو. في ذلك اليوم أصبحنا ثلاثة. في ذلك اليوم كانت عيناي مقيدتين إلى تنورة قصيرة جدًا تكشف عن فخذين سويين يهتزان مع كل هزة وكل حركة للقطار. وانتبهت إلى أن عينين زرقاوين كانتا تحدقان إلي، فأشحت بوجهي في خجل إلى النافذة. رأيت القاطرة في المنحنى البعيد ترقص غير مبالية بما تجر من عربات، تقهقه مثل الذي ينقر في رأسي. تفضل أيها الرفيق.. وجدت الفتاة قد وضعت طعامًا عل الطاولة وقنينة بها سائل صافٍ كالبلور، وصبت منه في قدحين، وكررت دعوتها. اعتذرت لكن شيطاني أفرغ كل ما في القدح في جوفه. جميل أنك تعرف لغتنا. لا.. لا.. لست أنا الذي يجيد لغتكم، بل هو. وملأتْ القدح. وصل القطار ونزلت معي ويدها في يده.
خرجتْ من الحمام مبللة، تروح وتجيء في إعداد المائدة. عاتبتني لأنني لم أنتبه للماء الذي كان يغلي. دخلتْ إلى الغرفة وارتدتْ أجمل ثوب لديها، ذلك الثوب الأسود الطويل المنتفخ الأكتاف الضيق من الخصر وحتى الركبتين، الواسع أسفل الركبتين، في صدره تناثرت حبيبات لامعة مثل نجوم السماء، جلبه الآخر من إحدى مدن الغرب الصاخب لكنها ما زالت تقول بأنني من أهداه إليها.. هنأتني بعيد ميلادي وصبت السائل البلوري في قدح وقدمته إلي. صوتها الحنون سيهزمني، ينتهي مساحات من نفسي، تتلاشى الحدود بين جسدينا.. سألتني وهي تمد القدح إلي، ما بيمينك يا عزيزي؟، مطرقة.، أعلم أنها مطرقة. أعني ماذا تفعل بها؟، ما يفعل الناس بها، وليس فيها مآرب أخرى.، حسنًا يا عزيزي لا تغضب. لن أدع هذا النهر الدافق من الحنان يهزمني الليلة أيضًا. هذه إحدى حيله، جذابة في هذا الثوب، أفلحت علبة المكياج في أن تجعلها أكثر فتنة وإثارة.
والنهر يتقدم نحوي، يغمرني ويشل تفكيري، يزداد الطرق في رأسي وفي صدري.. أتلفّتُ باحثًا عنه، لا أراه. بدأتُ أستسلم، وحدودي تُنتهك وكل عضلة في جسمي ترتخي، وقبضة يدي على المطرقة ترتخي، وأنفي يغوص في كتلتين طريتين، يفوح منهما عطر مثير. كانت أجمل الفتيات في تاريخ النساء. كادت المطرقة تسقط من يدي والنهاية مني بمنى خطوة. ظهر يقهقه ويشير إلي إشارة فهمت منها أنه يشد على يدي يهنئني.. نفسي ما زال يدغدغها التمرد والنهاية قاب قوسين أو أدنى، قفزتُ وأمسكت به وهويت على وجهه بالمطرقة.. قاومني لكن ضربة أخرى جعلته يتهاوى.. في عينيه ذات النظرات، ألصقته بالحائط، دققت الأوتاد في كفيه وألصقت ساقيه بالشريط اللاصق، ولم تمض سوى أقل من دقيقة حتى كان مشدود الوثاق مصلوبًا على الحائط، يسيل الدم من كفيه ومن أنفه. التفتُ إليها، كانت تصرخ مذعورة، ما الذي تفعله؟ لماذا دققت المسامير على الحائط؟، لقد صلبته. لم أرها مذعورة أبدًا لكنني لم أر أجمل منها في تلك اللحظة. تقدمت نحوها، كانت مستسلمة وجمالها فاق كل جمال، وكنت أنا في قمة توتري. قيدتها بالحبل إلى السرير، بكت بحرقة. أخذت حقيبتي وخرجتُ. ركبت أول طائرة تعود إلى أرض الوطن.. وأخيرًا شعرت أنني وحدي. لم أعد أحس بأنفاسه تتردد حولي. نظرت من خلال النافذة لأرى السحب عن قرب.. رأيته يطير بجانب الطائرة، ولوّح لي بيده، وأخذ يدير قبضة يده اليمنى في راحة اليسرى، يغيظني. أسدلت غطاء النافذة ولم يتبدل شعوري أنني وحدي، ورحت في سبات عميق..
“مجموعة رجال مجنحون”
Leave a Reply