صدام حسين والبعث في السودان: تفنيد الافتراءات واستعادة الحقيقة المغيبة

صحيفة الهدف

د/ امتثال بشير

في خضم محاولات محاكمة التاريخ على أساس النوايا لا الأفعال، تبرز روايات مشوهة تستهدف رموزا قومية وشخصيات أثرت في مسار السياسة في الوطن العربي لعقود خلت. ومن بين هذه المزاعم، تلك التي تتحدث عن “تحالف” مزعوم بين الرئيس العراقي “الشهيد صدام حسين” ونظام البشير في السودان، متهمة إياه بخذلان البعثيين السودانيين عقب مجزرة شهداء 28 رمضان، وهي افتراءات لا يسندها واقع أو وثيقة، تهدف إلى تشويه صورة رجل لم يعرف في مسيرته السياسية سوى الوضوح في المواقف والصلابة في المبادىء.

تفنيد هذه المزاعم لا يتطلب أكثر من العودة إلى سجل الأحداث والتصريحات الرسمية، التي توضح بما لا يدع مجالا للشك أن العلاقة بين العراق الرسمي – بقيادة صدام – ونظام البشير في السودان، لم تكن يوماً على حساب المبادىء القومية أو الوفاء للحلفاء السياسيين، بل كانت محكومة باعتبارات الدولة، ومنفصلة تماما عن العمل الحزبي.

وجاءت نقطة التحول في 23 أبريل 1979، عندما شن الرئيس الراحل جعفر نميري هجوما لاذعا على حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق خلال خطابه الشهري “بين الشعب والقائد”، وذلك عقب نشاطات قام بها بعثيون سودانيون في مدينة كادقلي، حيث خطوا شعارات مناهضة للنظام على الجدران، من بينها:

“أسقطوا النظام الذي باع الوطن وسرق قوت الشعب وخان القضية القومية” – في إشارة واضحة لتحالف نميري مع السادات بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد.

لم يتأخر نميري في الرد؛ فقطع العلاقات الدبلوماسية مع العراق، وأمر بإغلاق مكاتب الخطوط الجوية العراقية والمركز التجاري العراقي، بل وطالب بعودة الضباط السودانيين الذين كانوا يتلقون تدريبهم في الكليات العسكرية العراقية، إلى جانب الطلاب السودانيين الدارسين في الجامعات والمعاهد العراقية.

وفي ذلك الخطاب نفسه، وجه نميري الاتهام للبعثيين السودانيين قائلًا:

“إنهم يزعمون أنهم عرب ويبنون خلايا بعثية في جبال النوبة”.

وهنا احتفظ العراق بحق الرد؛ مؤكدا أن المواقف لا تتغير.

لاحقا، وبعد عودة العلاقات بين البلدين، زار وفد سوداني رسمي بغداد بقيادة عمر محمد الطيب، واشتكى للرئيس صدام حسين بما وصفه بـ”الازدواجية”، حيث قال له:

“نحن نقاتل معكم وأبناؤكم في السودان يدعون لإسقاطنا”.

لكن كان رد الرئيس صدام حسين واضحا، إذ سأله أولا

“هل هم عراقيون؟”

فأجاب عمر:

“لا، إنهم سودانيون”.

ليرد عليه صدام بمنتهى الحزم:

“وهل سألتك عن البعثيين الذين تعتقلونهم وتعذبونهم؟”.

بهذا الرد، قطع الرئيس صدام أي محاولة لتوريط العراق في شأن داخلي سوداني، مؤكدا أن موقفه من النظام السوداني أو أي نظام عربي، لا يتأثر بالخلافات الحزبية أو التضييق على البعثيين. فذلك – حسب تعبيره – “شأن داخلي يخص السودان؛ والعراق لا يتدخل فيه”.

وتوالت وقائع الاعتقالات والتعذيب.

رغم أن قيادة حزب البعث في السودان رفعت توصية بعدم التأثر بممارسات النظام، فإن الوضع في الداخل كان أكثر قسوة، حيث تم اعتقال عدد من البعثيين السودانيين في وكر الفتيحاب، ومن أبرزهم:

بشير حماد، عثمان الشيخ، حاتم عبد المنعم، الجيلي عبد الكريم

وتم تعذيبهم على يد جهاز الأمن السوداني، وتقديمهم إلى محكمة الطوارئ برئاسة المكاشفي طه الكباشي، والتي أضافت إلى تهمهم تهمة الكفر والإلحاد، بزعم أن فكر البعث يتنافى مع العقيدة. بل وصل الأمر أن أصبح القاضي نفسه ممثل الاتهام، في تجاوز صريح لأبسط مبادئ العدالة.

مواصلة لمواقف العراق المبدئية بعد انتفاضة؛ مارس – أبريل 1985، كانت أول زيارة لرئيس الوزراء المنتخب الصادق المهدي إلى طهران، حيث عرض التوسط بين العراق وإيران لوقف الحرب. لكن العراق رفض وساطته بحزم، قائلاً:

“لا يجوز لأي عربي أن يكون وسيطا في قتال عربي – أجنبي”.

وفي عام 1987، ومع سقوط مدينتي الكرمك وقيسان بيد قوات قرنق، توجه وزير الدفاع السوداني الفريق عبدالماجد حامد خليل، برفقة السيد محمد عثمان الميرغني إلى بغداد طلبا للدعم العسكري.

حينها كان رد صدام مختصرا وعميقا في دلالته:

“البصرة والكرمك سيّان”.

ووصل الدعم العراقي سريعا، حيث تم إرسال راجمات ساعدت الجيش السوداني في استعادة الكرمك، حتى قبل أن يعود الوفد السوداني إلى الخرطوم.

وظل العراق يعمل وفقا لموقف الدولة لا مزاج الحزب.

كل هذه الوقائع تؤكد أن العلاقة بين العراق والدول العربية، بما فيها السودان، كانت تدار من منطلقات دولة لا انفعالات حزبية. فالعراق لم يكن ليدير سياسته الخارجية وفق موقف هذه الدولة أو تلك من البعثيين أو من المعارضة، لأنه لو فعل، لما أبقى على أي علاقات مع الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية آنذاك.

أما اتهام الرئيس صدام حسين بخذلان البعثيين السودانيين أو التحالف مع من نكّل بهم، فهو افتراء لا يصمد أمام الوقائع، ومحاولة لإدانة رجل لم يعرف التلون أو التنازل في مواقفه، حتى وهو على حافة المقصلة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.