أزمة المثقف في زمن البطالة

زكريا نمر
كاتب من جنوب السودان
#ملف_الهدف_الثقافي
المثقف العاطل ليس جاهلا ولا ساذجًا، بل هو ضحية التناقض بين الوعي النظري والمعرفة المجردة من جهة، وبين واقع اقتصادي هش وفرص ضيقة من جهة أخرى. يتحدث عن الديمقراطية وهو لا يجد مقعدًا في مؤسسة. يناقش العدالة الاجتماعية وهو يصطف في طوابير البطالة. يحلم بتغيير المجتمع لكنه هو نفسه غير قادر على تغيير وضعه المعيشي. المعضلة لا تكمن فقط في غياب فرص العمل، بل في أن الثقافة التي يحملها هذا المثقف لم تتحول إلى رأسمال عملي يمكن أن يفتح له الأبواب. هو يعرف كل شيء عن هيغل وماركس ونيتشه، لكنه لا يعرف كيف يكتب سيرة ذاتية تجذب صاحب عمل. يتحدث عن السياسات العامة لكنه يجهل كيف يقنع لجنة توظيف بأنه يستحق المقعد الشاغر.
فالمثقف العاطل يصبح ناقدًا للواقع أكثر من كونه مشاركًا فيه. يتقن الخطاب النظري لكنه يعجز عن الاندماج في السوق. يضع يده على جراح المجتمع لكنه لا يجد علاجًا لجراحه الخاصة. إن عجزه عن تحويل المعرفة الى قوة عملية يجعل منه نموذجًا ماساويًا لشباب كثيرين يعيشون بين جدران البطالة.
لكن هل تقع المسؤولية على المثقف وحده؟ قطعًا لا. فالبيئة الاقتصادية الفقيرة، وغياب مشاريع التنمية، وانكماش سوق العمل، كلها عوامل تجعل المعرفة النظرية بلا قيمة عملية. المثقف العاطل في كثير من البلدان النامية ليس حالة فردية، بل ظاهرة جماعية تكشف عن اختلال العلاقة بين التعليم وسوق العمل. الجامعات تخرج آلاف الطلاب سنويًا في تخصصات نظرية، لكن السوق لا يجد لهم مكانًا، فيتحولون إلى جيش من العاطلين المثقفين. إن الخطر الأكبر في هذه الظاهرة ليس فقط في ضياع الطاقات، بل في أن يتحول المثقف العاطل إلى ساخر يائس أو غاضب عدمي. فالمعرفة التي لا تجد طريقها إلى العمل قد تتحول إلى نقمة على الذات والمجتمع، بدل أن تكون أداة للبناء والتغيير.
إن الحل لا يكمن فقط في البحث عن وظيفة، بل في إعادة تعريف دور المثقف نفسه. عليه أن يسعى إلى تحويل معرفته إلى مشاريع عملية، إلى مبادرات، إلى مهارات قابلة للتوظيف. كما أن الدولة مطالبة بفتح المجال أمام طاقات الشباب بدل أن تتركهم أسرى البطالة.
المثقف الذي يعرف كل شيء عن السياسة والفلسفة لكنه لا يعرف أين يجد وظيفة، هو جرس إنذار. إنه يصرخ بصمت، ويعبر عن أزمة أوسع.. أزمة العلاقة بين الفكر والعمل، بين المعرفة والحياة اليومية، بين النظرية والخبز.