
إحسان الله عثمان
#ملف_الهدف_الثقافي
كانت خطبة حجة الوداع في العام العاشر للهجرة، قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وثيقة حضارية تلهج بمبادئ الإنسانية في أسمى صورها، شهدها في صعيد عرفة ما يقرب من مائة وخمسة وعشرين ألفًا من الناس رجالا ونساءً.
هيکلها البنائي وجمالياتها الفنيّة تعد من روائع الأدب العربي والتراث التشريعي الحضاري الإسلامي غنية بخصائصها الفنية والأسلوبية الدلالية والبلاغية.. الأفكار والمحاور تشکّلت من العبارات الموجزة، وشملت الجانب العاطفي وتوظيف التکرار والتوکيد والتقـديم والتـأخير، ظـاهرة أسلوبية مشحونة بالمعاني البلاغية واللفتات الجماليّة الرائعة، والجمل الفعلية إدراجًا فنيًا يجمّل النصّ ويزيده حرکيّة..
تميزت الخطبة بكثرة الأساليب الإنشائية للفت الانتباه، وسهولة الألفاظ وتسلسل الأفكار والتركيز على الحجج والدلائل بأسلوب عقلاني قريب من أذهان السامعين، بغرض الإقناع والتأثير، واستخدام وسائل لغوية كأدوات النداء “أيها الناس”، والنهي والأمر الحقيقي والمجازي “اسمعوا مني” و”اللهم فاشهد”، وأسلوب المقابلة “من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له” وآليات بيانية تشبيهية بديعية، والتكرار وأدوات التوكيد “إن – أن” والمقابلة والثنائيات الضدية، وإظهار العاطفة والإشفاق..
تناولت الخطبة في مجملها رعاية الحقوق المدنية، وحماية المحرمات، وأداء الأمانات، وحرمة الأموال والدماء، والتحذير من مآثر الجاهلية، وتأكيد الحقوق الزوجية والأسرية، والاعتصام بالكتاب، والتسامح والصفح الجميل والأخوة الإنسانية..
أهم البنود والمحاور:
(أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبدًا..).
– حرمة الدماء والأموال والأعراض، مبينًا قدسيتها، ومحذرًا من الإعتداء عليها. (أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت اللهم فاشهد).
– إهدار العادات السيئة التي كانت سائدة في الجاهلية، من تقاليد العصبية والقبلية والأنساب والعرق واستعباد الإنسان والظلم والأحقاد والثأر. (وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة. ألا هل بلغت اللهم فاشهد).
– حرم الربا قليله وكثيره بصورة قاطعة، وأساليبه المتعددة، فلا يأخذ الإنسان إلا رأس ماله فحسب. (وإن ربا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وقضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب).
– حظيت المرأة بالنصيب الأوفر من خطبة الوداع، أوصى رسول الله صل الله عليه وسلم بالنساء خيرًا، وأكد في خطبته القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية. (أما بعد أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًا ولكم عليهن حق، لكم أن لا يواطئن فرشهن غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة).
(واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا. ألا هل بلغت اللهم فاشهد).
– أعلن صل الله عليه وسلم عن تطابق الزمن إذ ذاك مع أسماء الأشهر المقسم عليها، وذلك بعد طول تلاعب بها من العرب في الجاهلية وصدر الإسلام. (وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، مضر الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت اللهم فاشهد).
– التأكيد على عقيدة التوحيد والأصل الأول ووحدة الجنس البشري والأخوة الإنسانية. (أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلَّغت؟ اللهم فاشهد، قالوا نعم. قال فليبلغ الشاهد الغائب.)
– إعظام شأن الأمانة وأدائها لأصحابها والتحذير من تضييعها، حقوق الله تعالى وحقوق الناس وتشمل في معناها الواسع سيادة الحق والعدل والبر والإحسان. (وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانةٌ فليؤُدِّها إلى مَنْ ائْتمَنَهُ عَلَيها).
– مبدأ الأخوة بين المسلمين، وحذر من انتهاك الحرمات وأكل أموال الناس بالباطل، والعودة إلى العصبية والتقاتل. (أَيُّها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلمِ وأَنَّ المسلمين إخوةٌ، فَلاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طِيبِ نفْسٍ منهُ، فلا تظلمن أنفسكم. اللهم هل بلغت؟ وستلقون ربكم فلا ترجعن بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض).
ثم أعقب صل الله عليه وسلم توصياته هذه بأن نادى فيهم قائلا: (إنكم ستسألون عني، فما أنتم قائلون؟)، وارتفعت الأصوات من حوله: نشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ.
بعد أن فرغ الرسول الكريم من الخطبة، وفي نفس المشهد المهيب نزل قوله تعالى مبشرًا بتمام التبليغ وكمال التكليف: (اِ۬لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُ۬لِاسْلَٰمَ دينا) [المائدة/ 03].
Leave a Reply