
عبدالمنعم مختار
الأسلحة الكيماوية ليست اختراعاً من خيال هوليوود ولا شائعة من أسواق الخرطوم، بل هي واحدة من أبشع وسائل الإبادة التي عرفتها البشرية. منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم، ظل الغاز السام والمواد الخانقة أداة رخيصة لقتل البشر دون الحاجة لطلقات كثيرة. ومن لم يسمع بمجزرة حلبجة عام 1988م، حين استخدم نظام الملالي في قم الغازات القاتلة ضد المدنيين الأكراد فاختنق الآلاف في دقائق، فليعد قراءة التاريخ قبل أن يناقشنا في “براءة” أي نظام.
اليوم، تتدحرج كرة الاتهامات نحو حكومة الفريق عبد الفتاح برهان، إذ تتهمها أطراف محلية ودولية باللعب في الملعب الكيماوي. ورغم أن وزارة الصحة سارعت إلى إصدار تقرير ينفي وجود تلوث أو حالات تسمم جماعي، إلا أن التقرير بدا مثل شهادة “حسن سير وسلوك” كتبها المتهم لنفسه، بلا توقيع شهود ولا حتى ختم الجيران.
لكن ما يفاقم الشكوك أن الشارع يتداول قصص وفيات غريبة، وكأن الموت نفسه صار “سري للغاية”. بالتوازي، تنتشر أمراض تنفسية بشكل وقائي عجيب ،
القرائن كثيرة: أعراض غامضة وسط السكان،موت فجائي وغياب الشفافية في الفحوصات وأسباب الوفاة، فيديوهات متوفرة علي الميديا للبراءون تهدد باستخدام اسلحة مميتة وحاسمة والأهم أن الحكومة ترفض بإصرار دخول فرق التفتيش الدولية، وكأنها تخشى أن يكتشف الضيوف في حوشها أكثر من مجرد “بخاخ ناموس”. ولو كانت متأكدة من نظافة يدها، فلماذا كل هذا الذعر من السماح بالتفتيش؟
الأضرار لا تتوقف عند حدود المواطن المطحون؛ فالتربة الملوثة والمياه المسمومة والهواء الخانق كفيلة بتحويل السودان إلى مختبر كبير للتجارب الفاشلة، حيث يولد الأطفال مرضى وتتحول الزراعة إلى سموم، بينما يزداد الساسة انتفاخاً من فرط الإنكار.
المفارقة أن الحكومة، وهي غارقة حتى أذنيها في الأزمات، تعتقد أن كسب الوقت بالإنكار سيجعل الناس ينسون. لكنها لا تدرك أن السلاح الكيماوي لا يختفي مثل “الجبنة المنسية على النار”، بل يترك بصماته في الأجساد والبيئة لعقود.
وفي النهاية، يبدو أن السلطة في الخرطوم تعيش حالة إنكار كيماوي، ترفض التفتيش كما يرفض الطالب الكسول فتح حقيبته أمام المعلم. غير أن الفرق هنا أن التلميذ قد يُطرد من الفصل، بينما برهان وزمرته قد يطردون من التاريخ نفسه.
Leave a Reply