هل يستطيع البنك المركزي في دولة جنوب السودان إنقاذ العملة وكبح التضخم؟

صحيفة الهدف

 زكريا نمر – جنوب السودان

#ملف_الهدف_الاقتصادي
تعد السياسة النقدية احدى الركائز الأساسية التي تعتمد عليها الدول في ضبط ايقاعها الاقتصادي والحفاظ على الاستقرار المالي. غير أن تجربة دولة جنوب السودان في هذا المجال تكشف عن محدودية واضحة في الأدوات المتاحة للبنك المركزي، وهو ما انعكس سلبًا على قدرته في مواجهة الأزمات النقدية المتكررة وضبط التضخم والحفاظ على استقرار سعر الصرف.
لا يمتلك البنك المركزي في البلاد تنوعًا كافيًا من أدوات السياسة النقدية مقارنة بما هو متعارف عليه عالميًا؛ فالأداة الرئيسية التي يلجأ إليها حاليًا تتمثل في بيع العملة الأجنبية في السوق من أجل امتصاص السيولة والتحكم في سعر الصرف. ورغم أن هذه الأداة قد تسهم على المدى القصير في الحد من تذبذب قيمة الجنيه الجنوبي، إلا إنها على المدى الطويل تحمل مخاطر جسيمة، أبرزها استنزاف احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي، خصوصًا في ظل اقتصاد يعتمد بصورة كبيرة على عائدات النفط كمصدر رئيسي للعملة الصعبة.
إلى جانب بيع العملة الأجنبية، يملك البنك المركزي أداة أخرى تتمثل في تغيير معدل الاحتياطي القانوني على الودائع التي تحتفظ بها البنوك التجارية. هذه الآلية يمكن أن تؤثر على حجم السيولة المتاحة للإقراض، وبالتالي على النشاط الاقتصادي بشكل غير مباشر. غير أن فعالية هذه الأداة تبقى محدودة في جنوب السودان بسبب هشاشة النظام المصرفي وضعف حجم الودائع اصلاً، مما يقلل من تأثير أي تغيير يطرأ على نسبة الاحتياطي. أما الأداة الثالثة فهي تعديل سعر الصرف، وهي أداة حساسة للغاية لا تستخدم إلا في أوضاع استثنائية. اللجوء إلى هذه الخطوة دون توافر احتياطيات كافية من النقد الأجنبي أو دون وجود سياسة اقتصادية متكاملة، قد يؤدي إلى نتائج عكسية مثل ارتفاع معدلات التضخم وفقدان الثقة بالعملة المحلية.
إحدى أبرز المعضلات التي تعيق فعالية السياسة النقدية في جنوب السودان تتمثل في غياب الاستقلالية الكاملة للبنك المركزي. ففي كثير من الأحيان تتداخل القرارات السياسية مع القرارات الاقتصادية، ما يجعل البنك المركزي عاجزًا عن تبني سياسات نقدية مستقلة قادرة على تحقيق استقرار حقيقي. إضافة إلى ذلك، فإن ضعف البنية المؤسسية والافتقار إلى نظام مصرفي قوي يقللان من قدرة البنك على استخدام أدواته المحدودة بفعالية.
لا يمكن الحديث عن سياسة نقدية فعالة في جنوب السودان دون الإشارة إلى الحاجة الملحة لإجراء إصلاحات اقتصادية شاملة. هذه الإصلاحات يجب أن تركز على تنويع مصادر الدخل القومي بدل الاعتماد شبه الكامل على النفط، وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد لضمان استقرار بيئة الاستثمار، وتقوية النظام المصرفي المحلي وتشجيع الثقة في البنوك، ودعم استقلالية البنك المركزي وتمكينه من ابتكار أدوات جديدة تتناسب مع طبيعة الاقتصاد المحلي.
إن واقع السياسة النقدية في جنوب السودان يكشف عن مأزق هيكلي يتطلب معالجة عاجلة. فاعتماد البنك المركزي على أداة وحيدة تقريبًا وهي بيع العملة الأجنبية لا يمكن أن يضمن استقرارًا اقتصاديًا طويل الأمد، بل قد يقود إلى استنزاف الاحتياطيات وزيادة هشاشة الاقتصاد. فإن الحل يكمن في إصلاح شامل للنظام المالي والمصرفي وتوسيع قاعدة الأدوات النقدية مع ضرورة الفصل بين القرار السياسي والقرار الاقتصادي. وحده هذا النهج يمكن أن يمنح جنوب السودان فرصة حقيقية للخروج من أزمته النقدية وبناء اقتصاد أكثر توازنًا واستقرارًا.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.