دور الصناعة في الخروج من الأزمة الوطنية الشاملة: صناعة الغزل والنسيج أنموذجا(2-2)

صحيفة الهدف

صناعة الغزل والنسيج في السودان – من وعود النهضة إلى مرآة الأزمة الوطنية

م/ منعم مختار

# ملف _الهدف _الاقتصادي
بالطبع الأمم لا تنهض بالخطابة، بل بالاقتصاد المنتج، وبحسن استثمار ما تنبت الأرض وما تصنع الأيدي. السودان، البلد الذي طالما وُصف بأنّه (سلة غذاء العالم)، لم يستطع أن يكون حتى سلة لغذائه الخاص. وإن كانت الزراعة قد شكّلت دائما عمود فقراته الاقتصادية، فإنّ الصناعة هي العصب المفقود في جسده الهزيل. من بين الصناعات التي كان يمكن أن تجعل من السودان نموذجًا للإقلاع التنموي؛ صناعة الغزل والنسيج. فهي ليست صناعة كمالية، بل صلة رحم بين الأرض والإنسان، بين القطن الذي ينبت في الحقول والملابس التي تستر الأجساد.
لكن، كما في كل قصة سودانية، فإن الحلم سرعان ما يُجهض بفعل السياسات المرتبكة، والدوران في حلقات مفرغة يسطر العسكر فيها على أطول فترات حكم بالإضافة للفساد البنيوي، وتغليب الغنيمة السياسية على الرؤية الاقتصادية. لذا تصبح دراسة صناعة الغزل والنسيج نافذة ننظر منها إلى الأزمة الوطنية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

الفصل الأول: القطن كمورد استراتيجي: عرف السودان في الأسواق العالمية بقطنه طويل التيلة، حتى صار اسمه مرادفًا للجودة. تدرجت صادراته بين قصير ومتوسط وطويل التيلة، مما جعله مؤهلاً ليس فقط للتصدير خامًا، بل ليكون قاعدة لصناعة وطنية متكاملة. غير أنّ الدولة اختارت دائمًا الطريق الأسهل: بيع الخام بأسعار بخسة، بدل تحويله إلى منتجات تضاعف قيمته أضعافًا.
إنّ القطن لم يكن مجرّد محصول، بل كان يمكن أن يكون مشروعاً وطنياَ للاستقلال الاقتصادي. لكن سوء الإدارة الزراعية، وسياسات التحرير الاقتصادي غير المدروسة؛ أجهضت كل إمكانياته.

الفصل الثاني: صناعة الغزل والنسيج – قراءة تاريخية ونقدية: في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وُلدت مصانع النسيج في بحري، الحصاحيصا، الجزيرة، كوستي وغيرها. كانت هذه المصانع مشروعات استراتيجية لتوطين الصناعة وتوظيف آلاف العمال. غير أنّ تلك النهضة لم تكتمل. حيث:
1. تراجع تمويل الصيانة والتحديث.
2. تناقص إمدادات القطن بسبب تدهور الزراعة.
3. هيمنة خطاب (الريع السهل) من الذهب والنفط على حساب التصنيع.
فأضحت المصانع مجرد هياكل صدئة، بعضها تحوّل إلى مخازن، وبعضها الآخر أصبح أثراً تاريخياً في ذاكرة العمال المسرّحين.

الفصل الثالث: دور صناعة الغزل والنسيج في حل الأزمة الوطنية:
1. البعد الاقتصادي: لو أُعيد إحياء صناعة النسيج، لأمكنها أن تخلق عشرات الآلاف من فرص العمل، (النسيج السوداني “خليل عثمان” كان أكبر مشغل للعمالة في السودان “مصانع فتح الرحمن البشير يبلغ عمال الوردية الواحدة 1500 عامل” وتحقق الاكتفاء الذاتي من الملابس، وتوفر مليارات الدولارات التي تُهدر في الاستيراد. إضافة إلى قدرتها على جلب النقد الأجنبي من التصدير.
2. البعد الاجتماعي: الصناعة ليست مجرد آلات، بل شبكة حياة. تشغيل الشباب في المصانع يحدّ من البطالة، يقلّل من الهجرة القسرية نحو المدن، ويعيد للطبقة العاملة دورها التاريخي في تشكيل الوعي الوطني.
3. البعد السياسي: الاستقلال السياسي لا يكتمل بلا استقلال اقتصادي. وصناعة النسيج، بما تمثله من تحويل للمواد الخام إلى منتجات وطنية، يمكن أن تكون رمزاً لكرامة السيادة الاقتصادية في بلد طالما عانى من التبعية.

الفصل الرابع: التحديات البنيوية: لكن، لا يمكن الحديث عن صناعة النسيج دون مواجهة الحقيقة المرة:
1. الفساد المستشري الذي جعل المصانع تدار كمغانم حزبية لا كمؤسسات إنتاجية (مصانع سور، الهدهد، النسيج الياباني، جميرا….. الخ).
2. الحرب الأهلية التي نزعت الاستقرار وحولت الموارد نحو التسليح بدل التنمية.
3. المنافسة الخارجية من منتجات رخيصة مستوردة من الصين وتركيا.
4. غياب الدراسات والبحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة في الزراعة والصناعة.

الفصل الخامس: رؤية للإصلاح والتجديد: إن كان السودان جادًا في استنهاض نفسه، فإن صناعة النسيج يجب أن تكون أحد أعمدته. يتطلب ذلك:
1. إعادة تأهيل المصانع المتوقفة بمزيج من التمويل الوطني والشراكات الذكية.
2. تطوير زراعة القطن المحسّن عالي الجودة.
3. سياسات حمائية مدروسة تحمي الصناعة الوطنية من إغراق الأسواق.
4. الاستثمار في التدريب المهني للعمال والفنيين.
5. جعل الصناعة مشروعًا وطنيًا يتجاوز الانقسامات السياسية، تمامًا كما كان مشروع الجزيرة في بداياته.

الخاتمة: صناعة الغزل والنسيج ليست مجرد قطاع اقتصادي، بل مرآة تعكس مأساة السودان في فشله التنموي. ففيها نرى بوضوح كيف تتحول الثروة إلى نقمة حين تغيب الرؤية، وكيف يهدر بلد إمكانياته تحت وطأة صراع النخب. لكنها، في ذات الوقت، تفتح نافذة للأمل: أن يكون الحل في الداخل، في استنهاض الصناعة الوطنية، لا في الاستجداء من الخارج.
فإذا كان السودان يبحث حقا عن طريق للخروج من أزمته الوطنية الشاملة، فإن صناعة الغزل والنسيج تقدم نموذجًا مصغرًا؛ إمّا أن نحسن استثمار مواردنا بعقلانية ونزاهة؛ أو نظل أسرى دورة أبدية من الفشل والتبعية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.