
(دراسة ميدانية تتبع تضاعف أسعار السلع الأساسية بنسبة (40%) إلى (75%) في عامين وتكشف عن تدهور تاريخي للجنيه السوداني)
ماجد الغوث
#ملف _الهدف _ الاقتصادي
مقدمة:
تهدف هذه الدراسة الميدانية إلى رصد الآثار الاقتصادية المدمرة للحرب الدائرة في السودان منذ (أبريل 2023) على القطاع الإنتاجي وسلاسل الإمداد، مع تركيز خاص على ولاية شمال وشرق كردفان. وتمتد البيانات المجمعة على مدى عامين كاملين (أبريل 2023 – أبريل 2025) لتكشف عن صورة مروعة لانهيار النظام الإنتاجي المحلي، وتضاعف الاعتماد على الاستيراد، ووصول التضخم إلى مستويات طاحنة تجعل من السلع الأساسية رفاهية لا يقدر عليها المواطن العادي.
المشهد الإنتاجي قبل الحرب: قبل اندلاع الصراع، كان الاقتصاد السوداني يعاني من هشاشة هيكلية، كان يحقق قدرًا من الاكتفاء الذاتي في بعض السلع ويعتمد على الاستيراد في أخرى:
1. صناعة السكر: كان السودان يمتلك عدة مصانع كبرى قادرة على سد الاحتياج المحلي لوظفت بالطريقة المثلى، مثل:
– سكر كنانة
– سكر عسلاية
– سكر غرب سنار
– سكر الجنيد
– سكر النيل الأبيض
– سكر حلفا الجديدة
2. صناعة الدقيق: كانت المطاحن المحلية (مثل: سيقا، ويتا، روتانا، المدني، جموعة، سنار، ربك) تغطي (30%) فقط من حاجة السوق، بينما كان يتم استيراد (70%) من الدقيق من مصر.
3. الصابون: كانت المصانع المحلية (كمبال، مأمون البرير) توفر (30%) من الاستهلاك، ويستورد 70% من مصر.
4. الاعتماد الكلي على الاستيراد: كانت سلع أساسية تعتمد على الاستيراد بنسبة (100%)، مثل:
– العدس: من تركيا وكندا.
– الأرز: من الهند والصين ومصر.
5. الفول المصري: كان الإنتاج المحلي يغطي (20%) فقط (15%) من الشمال، (5%) من دارفور، بينما كانت الفجوة تسد بالاستيراد من مصر بنسبة (80%).
6. الزيت: كان الإنتاج المحلي (الضعين، النهود، نيالا، الأبيض، أم روابة، ربك، كوستي، المناقل يغطي (60%) من الاحتياج، ويستورد (40%) من مصر (عباد الشمس، أولين، قطن) وتركيا (ذرة شامية).
النتائج الكارثية للحرب: (الانهيار والإفقار):
دفعت الحرب القطاع الإنتاجي إلى حافة الهاوية. توقفت العديد من المصانع والمطاحن عن العمل بسبب انعدام الأمن، وانقطاع التيار الكهربائي، وانهيار سلاسل التوريد، وصعوبة نقل المحاصيل من مناطق الإنتاج إلى مراكز التصنيع. وقد انعكس هذا الانهيار مباشرة على أسعار السلع الأساسية، كما يوضح الرسم التوضيحي:
التحليل والخلاصات:( جذور الأزمة):
إن الارتفاع الجنوني في الأسعار ليس إلا عرضاً لمرض اقتصادي أعمق، تكشفه الدراسة في النقاط التالية:
1. انهيار قيمة العملة: الارتفاع المئوي الهائل للأسعار هو مرآة عاكسة لتدهور قيمة الجنيه السوداني بشكل تاريخي مقابل الدولار، والذي زادت قيمته بأكثر من (100٪) خلال نفس الفترة، مما رفع تكلفة الاستيراد إلى عنان السماء.
2. غياب الرقابة الحكومية: أدى انشغال السلطات بالصراع إلى انهيار كامل لدور الدولة الرقابي. غابت أي رقابة حقيقية على الأسواق، وتركت السوق ساحةً للمضاربة و(الغِلاء الفاحش) دون رادع، وهو ما يشبه (عَايرِة وأدوها سوط) كما يقال.
3. اقتصاد الريع والاحتكار: ساهمت الحرب في ترسيخ سيطرة (الرأسمالية الطفيلية)، حيث يقوم تجار كبار بتخزين الفائض النقدي الأجنبي والسلع الاستهلاكية بهدف إحداث ندرة مصطنعة والتحكم في الأسعار لتحقيق أرباح طائلة، مما يغذي دائرة (الثراء الفاحش للتجار مقابل الإفقار المتعمد للمواطن).
4. اعتماد مرضي على الاستيراد: كشفت الحرب أن (الاكتفاء الذاتي) كان قشرة رقيقة سرعان ما انكسرت. تحول الاعتماد الجزئي على الاستيراد إلى اعتماد كلي وشبه كلي في معظم السلع، مما جعل الاقتصاد السوداني وأمنه الغذائي رهينة لتقلبات سعر الدولار وأهواء الموردين الخارجيين.
5. وجهان لعملة واحدة: الخلاصة الأهم هي أن سعر الدولار والرأسمالية الطفيلية هما وجهان لعملة قبيحة واحدة، تتحكم في مصير ملايين السودانيين وتغذي أزمة معيشية غير مسبوقة، مما يضع تحقيق السيادة الاقتصادية كشرط أساسي لأي حل دائم ومستقبل مستقر للسودان.
إن وقف هذه الحرب العبثية التي تطحن البشر والحجر لم يعد رفاهيةً سياسية أو مطلبًا ثانويًا؛ بل هو الشرط الأساسي الأول لأي إمكانية للبقاء والبناء. لكن الدعوات المجردة للسلام تظل حبرًا على ورق ما لم تتحول إلى قوة فعلية قادرة على فرض إرادة الحياة على إرادة الموت. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تكوين جبهة شعبية عريضة للديمقراطية والتغيير، تكون بمثابة الجسم السياسي والاجتماعي الذي يجسّد الضمير الجمعي للشعب ويرفض أن يكون وقودًا لحرب الآخرين. هذه الجبهة ليست تحالفًا حزبيًا تقليديًا فوقيًا، بل يجب أن تكون حركةً نابضة من القاعدة، هدفها يجب أن يكون واضحًا وصريحًا، إسقاط مشروع الحرب بكل أطرافه، وليس مجرد التفاوض من أجل تقاسم سلطة بين النخب المتقاتلة. عليها أن ترفع شعارًا واحدًا جامعًا، (لا للحرب) نعم لدولة المواطنة المدنية الديمقراطية. قوتها ستأتي من قدرتها على خلق حالة من العصيان المدني الشامل تعطل مصالح المتحاربين وتكلفتهم ثمن استمرار الحرب، مع بناء بدائل مجتمعية من الأسفل لأعلى لإدارة شؤون الناس. إنها المعادل الموضوعي لإرادة الحياة التي لا تقهر، وهي الأمل الوحيد لانتشال السودان من هوة اللادولة إلى فضاء الدولة، ومن اقتصاد النهب إلى اقتصاد الإنتاج، ومن ثقافة السلاح إلى ثقافة الحوار. وتضم:
1. النقابات المهنية المستقلة (الأطباء، المهندسين، المعلمين، المحامين) التي تمثل العقل المفكر والضمير الناظم للمجتمع.
2. الفئات العمالية الوطنية في جميع القطاعات المهنية والحرفيين.
3. لجان المقاومة السلمية التي أثبتت وجودها في الذروة كقوة ضاغطة لا يمكن قمعها.
4. منظمات المجتمع المدني العاملة في المجال الإغاثي وحقوق الإنسان، التي تعيش تفاصيل المأساة يوميًا.
5. الشباب والنساء والطلاب الذين هم الضحايا الأساسيون والحلقة الأكثر إصرارًا على التغيير.
6. الشخصيات الوطنية المستقلة ذات المصداقية التي لم تتلوث بدم الصراع أو بفساد السلطة.
7. منتسبو القوات النظامية الذين سجلوا مواقف وطنية ومهنية شريفة، ومشهود لهم بالكفاءة والوطنية والولاء للمؤسسة العسكرية والشرطية والأمنية.
Leave a Reply