الاستعراض العلمي والتحليلي والفلسفي لندوة (ارتفاع وتيرة الاستيطان في الضفة مقابل الت.هديد باحتلال غ.زة، واقع وأبعاد جديدة للصراع مع العدو الصهيوني) التي قدمها الأستاذ المناضل محمود الصيفي – عضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير العربية – ضمن فعاليات منظمة المغتربين العرب – 29\8\2025م

صحيفة الهدف

أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

كلمة امتنان:

إنني أتوجّه بالشكر والامتنان إلى الأستاذ المناضل محمود الصيفي، الذي جسّد في هذه الندوة كيف يمكن أن تتحول الكلمة الصادقة، حين تُصاغ بالعلم والوعي العميق بالقضية، إلى فعل من أفعال المقاومة بحد ذاتها. لقد قدّم لنا مثالًا حيًا على أن الوعي الم.قاوم ليس رفاهية فكرية، بل هو س.لاح لا يقل أهمية عن البندقية، لأنه يُعيد صياغة البوصلة ويمنح الأمة العربية القدرة على قراءة حاضرها وصناعة مستقبلها.

قدّم الأستاذ المناضل محمود الصيفي- عضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير العربية – عبر هذه الندوة قراءة معمّقة ولحظة وعي نادرة في سياق واحد من أخطر المنعطفات التاريخية للص.راع العربي–الصهيوني. كاشفًا عن تحوّل خطير في بنية المشروع الاستعماري الصهيوني، من مجرد احتلال عسكري مباشر إلى إب.ادة مركّبة: مكانية، ديموغرافية، ورمزية.  فالندوة لم تكن مجرد توصيف للواقع بقدر ما كانت محاولة للكشف عن البنية العميقة لاستراتيجية العدو الصهيوني، ويمكن تفصيل ذلك على النحو التالي:

أولًا: الاستعراض التحليلي للندوة:

1. الاستيطان كاستراتيجية إبادة:

أ‌. إن ما يجري في الضفة الغربية اليوم يتجاوز كونه سياسة استيطان متدرّج، إلى أن يصبح مشروع ضمّ فعلي كامل، بل يهدف إلى إعادة هندسة المكان وتحويل الضفة إلى فسيفساء معزولة محكومة بـ (نظام المربعات) الاستعماري، بما يشبه مخطط الفصل العن.صري في جنوب إفريقيا ولكن بأدوات أكثر تطورًا. قائم على ثلاثية معلنة: الترحيل، القت.ل، التهجير. فقد خصّصت حكومة المجرم نتنياهو ميزانية ضخمة تصل إلى (13 مليار شيكل) لبناء (154 ألف) وحدة استيطانية خلال 4 سنوات فقط، وهو ما يعكس تسريع وتيرة الاستيطان من منطق (المراحل) إلى منطق (الحسم).

ب‌. ليس الاستيطان مجرد بيوت جديدة؛ بل هو مشروع هندسة استعمارية كاملة للجغرافيا، (950) بوابة عسكرية وحاجز أمني، أنظمة (مربعات) تتحكم بحركة الفلسطينيين، تفكيك أوصال المدن والقرى ومنع أي جسر أو نفق يربط بينها. هذا يعني أن الضفة الغربية لم تعد مجرد أرض محتلة، بل تُصاغ لتصبح (فضاءً محاصرًا بالكامل)، حيث يتحوّل الفلسطيني إلى كائن مقطوع الصلة عن ذاته وعن أرضه. وتسيطر على الحركة وتحوّل الجغرافيا الفلسطينية إلى فضاء خانق يخنق إمكانيات الحياة الطبيعية.

ت‌. إبقاء غ.زة تحت التهديد الوجودي، حيث تمثل غ.زة الوجه العسكري المباشر لهذه الإستراتيجية. فبعد مرور (23) شهرًا من حرب الإبادة المتواصلة، يواصل (الكيان الصهيوني) استخدام أدوات القت.ل الجماعي: الطائرات العمودية، طائرات (f16)، والقصف المركز، ليس بهدف الردع فحسب، بل لزرع وعي جمعي لدى الفلسطينيين والأمة العربية، بأن غ.زة (قابلة للكسر والإبادة)، وأن أي مشروع م.قاومة فيها يمكن أن يُمحى بقرار عسكري شامل. هكذا يتحول التهديد بغ.زو غ.زة إلى عنصرٍ دائم في المعادلة، هدفه الأساسي أن يظل الفلسطيني محاصرًا بين خيارين؛ الم.وت تحت القص.ف أو الم.وت تحت الاستيطان.

2. القدس والمسجد الأقصى: الحرب على الهوية والرمز:

أ‌. الاقتحامات المنظمة للمسجد الأقصى تحت حماية الشرطة (الإسرائيلية) ليست أحداثًا معزولة، بل جزء من عملية تفكيك رمزية القدس وتحويلها من مركز حضاري عربي–إسلامي إلى فضاء يخضع للسيادة الصهيونية.

ب‌. هدم 92 منزلًا بيد أصحابها الفلسطينيين يختزل فلسفة المشروع الصهيوني: إجبار الضحية على المشاركة في محو وجوده، بما يرسّخ الإكراه البنيوي الذي لا يترك للفلسطيني سوى خيار اله.دم الذاتي بدلًا من الانتظار لعقوبة مالية وجسدية مضاعفة.

3. التواطؤ الدولي والصمت العربي:

أ‌. المجتمع الدولي لا يمارس صمتًا عابرًا؛ بل يشارك في تواطؤ مؤسسي، إذ إن استمرار الاستيطان يخدم مصالح إستراتيجية مرتبطة بالصناعات العسكرية، والتكنولوجيا الأمنية، وشركات الطاقة التي تستفيد من بيئة الص.راع.

ب‌. الانقسام العربي، بل وافتعال الأزمات الداخلية في السودان وسوريا وليبيا وغيرها، يخدم إستراتيجية تفريغ الوعي العربي من قضيته المركزية وإشغاله بصراعات محلية.

4. البعد الاقتصادي للاستيطان:

أ‌. الاستيطان ليس مجرد ممارسة استعمارية، بل هو آلة اقتصادية ضخمة تدر أرباحًا على الشركات (الإسرائيلية) والعابرة للقارات، مثل:( Caterpillar، HP، Elbit Systems)، التي تشارك في بناء المستوطنات وتزويد الجيش بالبنية التحتية التقنية.

ب‌. تهجير الفلسطينيين يُحرّر مساحات واسعة لاستثمارات عقارية وسياحية (كما في الشيخ جراح وسلوان)، ما يحوّل الاستيطان إلى مشروع (رأسمالية استعمارية) تستثمر في النكبة المستمرة.

5. القراءة العلمية والفلسفية لأبعاد الندوة: ما يميز هذه الندوة هو كشفها أن المشروع الصهيوني لم يعد مشروعًا (توسعيًا تدريجيًا)، بل دخل مرحلة الحسم النهائي:

أ‌. إعلان السيادة الكاملة على الضفة.

ب‌. عزل الخليل عن محيطها.

ت‌. تحويل المستوطنات والبؤر العسكرية (52 بؤرة جديدة في آب 2025 فقط) إلى بنية تحتية دائمة للضم، لا مجرد اعتداءات عابرة.

لكن البُعد الأعمق الذي تطرحه الندوة يكمن في الجانب الفلسفي– الوجودي؛ يتمثل في التالي:

1. الاستيطان ليس مجرد بناء حجر فوق حجر، بل هو عملية محو للذاكرة التاريخية، وإلغاء لحق الشعب العربي في أن يكون له أرض وسردية وهوية.

2. استباحة المسجد الأقصى لا تُختزل في كونها تعدّيًا دينيًا، بل هي محاولة لن.سف مركزية القدس بوصفها الرمز الجامع للهوية العربية والإسلامية والإنسانية.

3. الصمت الدولي ليس حيادًا ولا عجزًا، بل هو تواطؤ صريح يعيد إنتاج منطق الاستعمار الكولونيالي الذي قام على تقسيم الشعوب وإدامة خضوعها للقوة.

الخلاصة: من هذا المنظور، يمكن القول إن الندوة قدّمت ما يتجاوز التوثيق والوصف إلى إعادة تعريف لطبيعة الصراع؛ ففلسطين لم تعد مجرد (قضية حدود وأرض)، بل باتت قضية وجود الأمة العربية نفسها، ومصيرها الحضاري. إن ما يجري ليس حدثًا عابرًا، بل هو تحوّل بنيوي شامل في المشروع الصهيوني، يفرض علينا نحن الشعب العربي إعادة صياغة وعينا الإستراتيجي، والنظر إلى فلسطين باعتبارها المفتاح الذي تتحدد من خلاله هوية الأمة العربية ومستقبلها: إما أن نكون شركاء في صناعة مشروع حضاري تحرري جامع، أو نُترك فرادى لمصائر التجزئة والهيمنة والاندثار.

ثانيًا: وجهة نظري في ضوء الندوة:

في تقديري، إن الندوة التي قدّمها الأستاذ المناضل محمود الصيفي قد وضعت أيدينا على مفارقة خطيرة وحاسمة؛ نحن – كشعب عربي  وفلسطينيين – ما زلنا في كثير من الأحيان نتعامل مع الص.راع بمنطق (ردّ الفعل)، في حين أن العدو الصهيوني يتحرك ضمن رؤية إستراتيجية متكاملة ومركّبة تجمع بين أدوات الاستيطان، والتهجير، والحصار، والإب.ادة، والتطبيع، والتق.طيع الجغرافي، وكل ذلك في إطار خطة شاملة هدفها النهائي إلغاء الوجود الفلسطيني كهوية وشعب عربي. الأخطر من ذلك أن المشروع الصهيوني يعمل على إنتاج واقع (الأرض بلا شعب) عبر مستويات متوازية:

1. الهدم الذاتي للمنازل: حيث يُجبر الفلسطيني على هدم بيته بيده (92 منزلًا في القدس وحدها)، في تجسيد قاسٍ لع.نف رمزي يهدف إلى كسر الإرادة وتحويل الضحية إلى أداة تنفيذ لجريمة الاستعمار.

2. العزل الجغرافي: فصل الخليل والقدس عن محيطهما الطبيعي، ليتحوّلا إلى جزر معزولة، مفرغة من حيويتها التاريخية.

3. التقطيع الشبكي للطرق والمنافذ: حيث تتحول الضفة الغربية إلى فسيفساء ممزقة، يسيطر عليها العدو الصهيوني عبر نظام بوابات وحواجز وأسوار، تجعل الفلسطيني أسيرًا في جغرافيا محاصرة، بلا أفق للحياة الطبيعية.

إن ما أضاءته الندوة يكشف أن الص.راع لم يعد مجرد مواجهة بين (شعب عربي فلسطيني تحت الاحتلال) و(دولة غاصبة ومحتلة)؛ بل أصبح مواجهة مع منظومة إب.ادة استعمارية هجينة، تجمع بين التكنولوجيا، والقانون، والاقتصاد السياسي العالمي. حيث أن :

1. (إسرائيل) لم تعد تتخفّى وراء خطاب (السلام) أو (المفاوضات)، بل باتت تعلن نيتها بالسيادة الكاملة على الضفة الغربية، كمرحلة نهائية من الضم.

2. المقاومة المسلحة في غزة والصمود المدني في الضفة الغربية هما وجهان لإستراتيجية واحدة، إفشال مشروع التهجير الشامل وكسر احتكار (الكيان الصهيوني) للع.نف.

3. حركة المقاطعة (BDS) أثبتت فاعلية غير مسبوقة، حيث انسحب (85 ألف) مستوطن بشكل نهائي، و(800 ألف) آخرون باتوا في (استراحة مؤقتة)، وهو ما يدل على أن الهشاشة الداخلية للاقتصاد للكيان الصهيوني أكبر مما يُروَّج، رغم الدعم الغربي الهائل.

من هنا، يمكن القول إن جوهر الصراع العربي – الصهيوني، لم يعد يُختزل في الجغرافيا وحدها، بل في معركة المعنى: هل يستطيع الفلسطيني والعربي أن يحافظ على قدرته على إنتاج معنى وجودي مضاد للاستعمار والاحتلال، أم سيُعاد تشكيله ككائن مُستعمَر منزوع الإرادة؟

أن القضية الفلسطينية تجاوزت منذ زمن طويل الأطر التقليدية مثل (حل الدولتين)، أو (المفاوضات)، أو حتى (وقف الاستيطان). وإن جوهر المسألة اليوم هو التحرر الشامل من مشروع الإبادة الاستعماري، بما يعنيه ذلك من تحرر من أدوات التبعية والتجزئة والانكسار التي فُرضت على الأمة العربية ذاتها. فالسؤال لم يعد (أين حدود الدولة الفلسطينية؟)، بل أصبح، في  هل يبقى الفلسطيني والشعب العربي قادرًا على إنتاج معنى جديد للوجود الإنساني في مواجهة الاستعمار والاحتلال، أم يذوب في خطاب الهزيمة والتجزئة؟

ثالثًا: المطلوب عمله (رؤية إستراتيجية): بالإمكان تقسيمها الى التالي:

1. على المستوى الفلسطيني:

أ‌. الوحدة الوطنية: تجاوز الانقسام بين غزة والضفة الغربية، لأن العدو الصهيوني يتعامل مع فلسطين كوحدة متكاملة في مشروع الاستيطان والهيمنة.

ب‌. إستراتيجية مقاومة مركّبة: الجمع بين المقاومة الشعبية، والكفاح المسلح، والعمل السياسي والدبلوماسي، والتحرك القانوني الدولي.

ت‌. تعزيز البقاء والصمود: دعم المقدسيين ماليًا وإعلاميًا، وتثبيت المزارعين في أراضيهم، وبناء شبكات دعم محلية تجعل الوجود الفلسطيني فعل تحدٍّ يومي للاستيطان.

ث‌. بناء اقتصاد مقاوم عبر شبكات تمويل ذاتي وزراعة وصناعات صغيرة، خصوصًا في المناطق المعزولة (الخليل نموذجًا).

ج‌. توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي (درونز، كاميرات ذكية، أرشفة رقمية) لتوثيق الانتهاكات وإنتاج (ذاكرة رقمية) لا يمكن طمسها.

ح‌. توحيد الفصائل الفلسطينية ضمن إستراتيجية مركّبة تمزج بين الكفاح المسلح والمقاومة الشعبية والمدنية.

2. على المستوى العربي:

أ‌. تحويل التضامن إلى فعل: الانتقال من الشعارات إلى الممارسة عبر مقاطعة اقتصادية وثقافية وأكاديمية شاملة للكيان الصهيوني.

ب‌. إعادة مركزية القضية: اعتبار القدس ليست مجرد (قضية الفلسطيني)، بل (قضية الأمة العربية) و(قضية الحرية الإنسانية)، بما يعيد إدماج فلسطين في صميم الهوية القومية.

ت‌. تحريك القوى الحية: إشراك الأحزاب، والنخب الفكرية، والمجتمع المدني العربي في معركة الوعي والمقاومة، ليصبح كل عربي طرفًا فاعلًا في الصراع، لا مجرد متفرّج.

ث‌. مقاطعة شاملة وملزمة للكيان الصهيوني والشركات الداعمة له، بدعم حكومي رسمي لا يقتصر على المبادرات الشعبية.

ج‌. إعادة تعريف الأمن القومي العربي بحيث يصبح تحرير فلسطين شرطًا لبقاء الأمة العربية.

ح‌. إطلاق مشاريع تكامل اقتصادي عربي– فلسطيني (طاقة، غذاء، اتصالات) تجعل الوجود الفلسطيني عنصرًا عضويًا في مستقبل المنطقة.

3. على المستوى الدولي:

أ‌. فضح جرائم الاستعمار: استخدام المنصات الحقوقية والقانونية والإعلامية العالمية لتعرية الممارسات الصهيونية، ومنع احتكار الرواية الدولية من قبل العدو الصهيوني.

ب‌. بناء تحالفات كونية: ربط القضية الفلسطينية بحركات التحرر في الجنوب العالمي (أميركا اللاتينية، أفريقيا، آسيا)، لتستعيد فلسطين موقعها التاريخي كـقضية تحرر عالمي ضد الاستعمار والإمبريالية.

ت‌. رفع دعاوى أمام المحاكم الدولية بتهم الإبادة والفصل العنصري، مع حملات ضغط لكشف ازدواجية المعايير الغربية.

ث‌. فضح تورط الشركات العالمية الداعمة للاستيطان الصهيوني أمام الرأي العام العالمي، بما يحرج الحكومات ويحفّز حركات المقاطعة.

ج‌. بناء تحالفات إستراتيجية مع حركات التحرر في الجنوب العالمي (أميركا اللاتينية، أفريقيا، آسيا)، لإعادة تموضع فلسطين كـ قضية تحرر عالمي لا كصراع إقليمي.

خاتمة: الندوة كشفت أن الكيان الصهيوني يعيد إنتاج مشروع استعماري واستيطاني واحتلالي من القرن التاسع عشر، لكن بأدوات القرن الحادي والعشرين: الجدار الذكي، المراقبة بالذكاء الاصطناعي، الاقتصاد الريعي الاستيطاني، والتحالف مع النظام الرأسمالي العالمي. إن الرد لا يمكن أن يكون تقليديًا، بل يجب أن يتجسد في مقاومة عابرة للحدود، تتوزع بين:

1. المقاومة المسلحة في غزة.

2. المقاومة المدنية في الضفة.

3. المقاطعة الاقتصادية عالميًا.

4. والحملات القانونية والسياسية في المحافل الدولية.

وفي الختام، لا بد من توجيه الشكر إلى الأستاذ المناضل محمود الصيفي، الذي أضاء بوعيه العميق أن الكلمة ليست وصفًا للواقع فحسب، بل هي فعل مقاومة يسهم في إعادة تشكيل الوعي، والوعي هو الشرط الأول لأي تحرر حقيقي.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.