أحمد خالد أبو قرحة المحامي
طرحت القوى السياسية الحقيقية مواقفها بوضوح إزاء الحرب، وأبدت رفضها المطلق لاعتبار السلاح وسيلة لحل الخلافات السياسية. فقد خبر السودانيون، عبر كل الحقب الدكتاتورية، أن خيار الحرب ظل الأداة المضمونة التي يلجأ إليها الجنرالات لتثبيت سلطتهم. ومن المستحيل عقلاً أن يقود أي جنرال حرباً ضد ما يسميه “تمرداً”، ثم يُطالب هو نفسه بالتنحي أو يُغيّر من كرسي الحكم. على العكس، عادةً ما يصوّر لنفسه ولحاشيته ـ التي غالباً ما تكون فاسدة ومفسدة ـ أنه بطل قومي. والحقيقة أن لا خير يُرجى من أي حرب؛ فهي لا تجلب تنمية، ولا رخاء، ولا استقرار.
لكن ظل مبدأ رفض الحرب شعاراً سياسياً مجرداً، من دون أن يتحول إلى واقع يومي يتبناه المجتمع. فالحرب لا تُدار في جبهات بعيدة فحسب، بل تُغذَّى من داخل البيوت: من الأم والأب، والأخ والأخت، والزوجة والابن. فالمحارب يخرج من حضن أسرته، ومن بيته، ومن حارته. هنا يبرز الدور المجتمعي والأسري؛ إذ تستطيع الأم أن تثني ابنها أو زوجها عن الذهاب إلى القتال بأدوات المجتمع المعهودة: عفو الوالدين، دعاؤهما، وطلب رضاهما. كما تستطيع الزوجة أن تعترض على ذهاب زوجها للحرب. الفارق شاسع بين من يزغرد لسلاح مرفوع، وبين من يعترض على فكرة الحرب من أساسها. وكلما غاب هذا الدور، اتسع المجال أمام دعاة الحرب لاستقطاب اليفع والقُصّر وغيرهم بالتغرير والخداع.
إن الدعوة لوقف الحرب ما تزال حبيسة بين الشعار والمبدأ. فالشعار وحده، ما لم تدعمه آليات عملية على الأرض، سيبقى بعيداً عن التنفيذ. أما إذا تعاملنا مع الأمر كمبدأ راسخ، فالمبادئ ـ كما يقول المثل ـ “من يخطب الحسناء لم يغلها المهر”. أي أنها تستحق التضحية والجهد لتثبيتها في الواقع.
ومن المؤسف أن دعاة الحرب لا يدفعون بأبنائهم إلى ساحات القتال؛ بل يسارعون إلى إخراجهم من البلاد، وإلحاقهم بأرقى الجامعات، وتوفير أفضل فرص العمل والحياة لهم بعيداً عن رصاص الحرب. أما أبناء البسطاء، فيُدفعون إلى المحرقة تحت شعارات الجهاد والموت والحور العين. وهكذا يتحول الموت إلى مشهد عادي، بل وربما إلى رغبة، في ظل غياب أي نظر جاد في مشروعية هذه الحرب. لقد خبرنا ذلك من قبل، حين صُوّر قتلى حرب الجنوب في بدايتها كـ”شهداء”، ثم عاد عرابوها ليصفوهم في تناقض فجّ بـ”الفطائس”.
إن مسؤوليتنا جميعاً أن نعيد النقاش إلى داخل البيوت: أن نحدث الأمهات، ونحاور الآباء، ونقنع الإخوة والأبناء والأزواج، وأن نستنفر دور الجيران والأقارب وكل مكونات الأسرة الممتدة. فالحياة لا تُصان بزخات الرصاص، ولا يأتينا الخير من فوهات المدافع. وحده الوعي المجتمعي، والرفض الجماعي للحرب، يمكن أن يوقف نزيف الدم ويفتح أبواب المستقبل.

Leave a Reply