“أزمة المثقف” في أسر القبيلة

صحيفة الهدف

زكريا نمر
كاتب من جنوب السودان
#ملف_الهدف_الثقافي
في مجتمعاتنا يبرز إشكال معقد يواجه النخبة المتعلمة، ويتمثل في فئة من المثقفين، الذين يفترض أن يكونوا أدوات للتنوير ورافعة للوعي الجمعي، لكنهم يتحولون عن قصد أو عن غير قصد إلى عوائق أمام مسار المجتمع. هؤلاء لا يمثلون المثقف الحر، الذي ينفتح على الوطن والإنسانية، بل ينزلقون نحو أنماط ضيقة من التفكير، حيث ينحصر ولاؤهم في القبيلة أو العشيرة.هذا المثقف القبلي يفرغ مفهوم الثقافة من محتواه الحقيقي، يختزلها في خدمة مصالح ضيقة، ويتحول إلى صوت دعائي يبرر وجود أبناء قبيلته في السلطة مهما كان حجم فسادهم أو تقصيرهم. لا يرى الوطن إلا في صورة قبيلته، فيضيق الأفق الوطني لصالح منظور عشائري محصور. الأخطر أنه يجمل الأكاذيب ويحولها إلى حقائق مسلم بها، فيضلل الناس ويغذي فيهم الانقسام.

في سلوكياته اليومية، يصبح هذا المثقف أكثر شراسة من غيره في الدفاع عن ممارسات خاطئة، لأنه لا يراها أخطاء بل حقا يجب حمايته. وفي النقاشات العامة، لا يقدم أي مشروع أو رؤية أو نقد بناء، بل يكتفي بتوجيه سهام الاتهام نحو الآخرين، وكأن مهمته الوحيدة هي تثبيت الانقسام وعرقلة أي محاولة جادة للإصلاح.هذه الظاهرة خطيرة، لأنها تجعل من المثقف، الذي يفترض أن يكون حارسًا للوعي، أداة لإعادة إنتاج الجهل. بدل أن يسهم في تفكيك البنى التقليدية المتخلفة، يصبح جزءًا منها، بل ويضفي عليها مشروعية فكرية. إن غياب النقد الإيجابي وغياب الرؤية الوطنية الواسعة يجعل منه عنصرًا معرقلًا لأي مشروع نهضوي.

إن المثقف الحقيقي لا يقاس بكمية الكتب، التي قرأها أو بالشهادات، التي حصل عليها، بل بقدرته على تجاوز انتماءاته الضيقة والانفتاح على قضايا الوطن والإنسان. لذلك، فإن المثقف القبلي أو العشائري ليس فقط عديم الجدوى، بل هو خطر مباشر على المجتمع، لأنه يكرس الانقسام بدل أن يسهم في بناء جسور الوحدة والوعي.

إن مواجهة هذه الإشكالية تتطلب إعادة تعريف دور المثقف في مجتمعاتنا: أن يكون ضميرًا يقظًا، ناقدًا صريحًا، باحثًا عن الحقيقة، منحازِا للإنسان والعدالة، لا لسلطة القبيلة ولا لمصالح العشيرة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.