
أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#ملف_الهدف_الثقافي
في شهر ربيع الأول من كل عام، تتجدد في قلوب المسلمين ذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا بوصفها مناسبة احتفالية عابرة، بل باعتبارها محطة وجودية تستنهض فينا روحًا حضارية عابرة للزمن. إنّها ذكرى رجلٍ واحد استطاع أن يحوّل مجرى التاريخ، وأن يشيّد أمةً من قلب فراغٍ حضاري، وأن يضع للبشرية أسس نهضةٍ ظلّت مصدر إلهام لقرون طويلة. من هنا، فإنّ المولد النبوي ليس مجرد استعادة لوقائع الماضي، بل دعوة مفتوحة لإعادة قراءة رسالته الخالدة باعتبارها مشروعًا متجددًا لتجسيد النهضة العربية المعاصرة.
لقد قامت الرسالة المحمدية على منظومة من القيم والأسس، التي لا تزال تمثل – رغم مرور القرون – مرتكزات لأي مشروع حضاري جاد. فهي أولًا دعوة للوحدة في التنوع؛ إذ جمعت القبائل المتناثرة تحت مبدأ (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا)، لتصوغ من التشرذم قوة موحّدة. وهي أيضًا دعوة للعلم والمعرفة، حيث ارتبط الوحي الأول بكلمة (اقرأ)، فحوّل طلب العلم من خيار فردي إلى فريضة جماعية أطلقت أكبر حركة ترجمة وإبداع علمي في التاريخ الوسيط. وهي في جوهرها ثورة للعدالة الاجتماعية، ألغت امتياز النسب والثروة وأكدت أنّ (كلكم لآدم وآدم من تراب). وهي أخيرًا مشروع للأخلاق باعتبارها جوهر البعثة: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق). هذه المبادئ، إذا أعيد تفعيلها اليوم، تشكّل قاعدة لنهضة عربية شاملة.
ولأنّ الرسالة وُلدت في قلب الجزيرة العربية، فإنها حملت بُعدًا قوميًّا واضحًا؛ فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، والنبي صلى الله عليه وسلم انحدر من أعرق الأنساب العربية. لكنّ عروبة الرسالة لم تكن انغلاقًا على الذات أو تعصبًا عرقيًا، بل تكليفًا حضاريًا يجعل من العروبة جسرًا يحمل رسالة إنسانية للعالم كله. ومن ثمّ، فإن الاحتفاء بالمولد النبوي هو في جوهره احتفاء بالهوية العربية في أسمى معانيها: هوية منفتحة، حاملة لمشروع عالمي، قادرة على صياغة معادلة توازن بين الأصالة والمعاصرة.
إذا أعدنا قراءة السيرة النبوية اليوم، فإننا نجد فيها مخططًا تنمويًا متكاملًا سبق عصره. فقد واجهت الرسالة التحديات بالتوحيد وبناء التحالفات، وهو درس تحتاجه أمتنا في ظل التشرذم السياسي الراهن. وركزت على بناء الإنسان قبل بناء المؤسسات، وهو ما يستدعي أن تكون أولويتنا القصوى إعادة الاعتبار للتعليم والثقافة والبحث العلمي. كما أسست لاقتصادٍ قائم على العمل والإنتاج والمعرفة، وهو ما يجب أن يحررنا من أسر اقتصاد الريع والاعتماد على الخارج. وانتشرت الدعوة بالحوار والحكمة لا بالسيف، وهو ما يدفعنا اليوم إلى تعزيز قوتنا الناعمة في العالم، عبر الإنجاز العلمي والثقافي والدبلوماسي.
إنّ المولد النبوي، إذا قُرئ من هذا المنظور، يصبح نداءً للتجديد الحضاري لا مجرد طقس شعائري. إنه لحظة لمساءلة الذات: كيف يمكننا نحن العرب أن نستعيد روح المشروع النبوي في زمن العولمة والتحديات الوجودية؟ هل نكتفي بالاحتفالات الخطابية، أم نحول الذكرى إلى خطة عمل تبني المستقبل؟
ما أحوجنا اليوم إلى أن نجعل من المولد النبوي نقطة انطلاق لمشروع نهضوي معاصر، يحقق ما يلي: وحدة عربية عملية تتجسد في مؤسسات اقتصادية وسياسية مشتركة تعيد بناء (السوق العربية الكبرى)؛ مشروع علمي–بحثي عربي قادر على مواجهة تحديات الأمن الغذائي والمائي والطاقي، إعلام عربي يعكس قيم الأمل والإنجاز بدلًا من التمزق واليأس؛ وأخيرًا، ثورة أخلاقية تعيد الاعتبار للقيم في حياتنا العامة والخاصة.
إنّ أفضل طريقة للاحتفاء برسول الإنسانية ليست في الطقوس وحدها، بل في أن نكون نحن العرب أمة تُحترم: قوية بعلمها، متحضرة بأخلاقها، متماسكة في وحدتها، فاعلة في مسار التاريخ. فالرسالة،التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور لا تزال قادرة – إن نحن أخلصنا لها – أن تخرجنا من عثرات الحاضر إلى أفق مستقبلٍ يليق بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
Leave a Reply