الشماتة في الموت بين غريزة الانتقام وأفق العدالة

صحيفة الهدف

د أحمد الليثي
#ملف_الهدف_الثقافي
الموت لحظة كاشفة، ليس فقط لمن يواجهها، بل لمن يراقبها من بعيد. ففي موت المجرمين والخصوم، تتفجر مشاعر متناقضة: بعضهم يبتهج كمن انتصر أخيرًا، وبعضهم يلوذ بالصمت كمن اكتشف أن الموت يساوي بين الضحية والجلاد، بينما آخرون ينشدون العدل في ما وراء هذه اللحظة.
هنا تتجلى إشكالية الشماتة: هل هي فعل إنساني طبيعي، أم سقوط أخلاقي يربطنا بخصومنا حتى بعد زوالهم؟

الشماتة كتنفيس مشروع:
من منظور سيكولوجي، يمكن فهم الشماتة كتنفيس لغضبٍ عميق تراكم عبر سنوات من القهر أو الخيانة.
حين يسقط الطاغية أو يموت القاتل، يشعر الضحية أن شيئًا من العدالة قد تحقق، ولو عبر حتمية بيولوجية لا يد للإنسان فيها.
لذلك ليس غريبًا أن نجد فرحًا جماعيًا عند سقوط الدكتاتوريات، كأن موت المستبد يرمز لميلاد حياة جديدة.

حدود الشماتة: من الفرح بالعدالة إلى لذة الموت
لكن الخطر يبدأ حين تتحول الشماتة من الفرح بزوال الظلم إلى لذة بموت الآخر لذاته.
هنا ينزلق الإنسان إلى منطق الانتقام البدائي، فيفرح لا لأن الشر انتهى، بل لأن جسدًا سقط. بهذا المعنى، الشماتة ليست تحررًا من الطاغية، بل استمرار في الدوران في فلكه. فنحن نؤكد أنه كان مركزًا لعواطفنا حتى بعد موته.
وقد حذّر نيتشه من هذا الانزلاق، معتبرًا الشماتة إحدى علامات “أخلاق العبيد” التي لا تخلق معنى جديدًا للحياة، بل تقتات على سقوط الآخر. القوة الحقيقية عنده هي تجاوز الأحقاد والقدرة على الإبداع، لا انتظار موت الخصم.

الموقف الفلسفي: الفرح بالعدالة لا بموت الجسد
الفلسفة والأديان الروحية تميل إلى نقد الشماتة. فالموت قدر يشمل الجميع، والتشفي فيه يُفقرنا أخلاقيًا. الأرقى أن نفرح بانتصار العدالة، لا بزوال إنسان مهما كان إجرامه.
العدالة فعلٌ يخصّ القيم، أما الموت فهو حادث طبيعي قد يطال المجرم كما يطال البريء.
من هنا يمكن القول: الموت لا يصنع العدالة، بل فقط يضع حدًا لمسيرة الجسد.
في هذا الإطار، يذهب كانط إلى أن الشماتة تناقض الواجب الأخلاقي، لأنها تنزع عن الآخر كرامته الإنسانية، حتى وإن كان مذنبًا.
فالموت لا يجوز أن يكون موضوعًا للذة أو تشفٍّ، لأن الكرامة قيمة مطلقة لا يحق لنا إلغاؤها.

الشماتة كصورة معكوسة للظلم:
الشماتة، في جوهرها، قد تجعلنا نسخة مصغرة من الظالم. فالطغاة أنفسهم لطالما فرحوا بموت معارضيهم، ونحن إذ نشمت بموتهم قد نعيد إنتاج منطقهم.
الفرق أن فلسفة التحرر لا تقوم على التماهي مع أدوات الجلاد، بل على بناء معنى جديد للحرية يتجاوز ثنائية الضحية والجلاد.
هنا يضيء الموقف الصوفي: ابن عربي يرى أن الرحمة الإلهية أوسع من أن تُختزل في الأحقاد، وأن العارف يفرح بزوال الظلم لا بزوال الظالم. أما الحلاج فبرمزيته الشهيرة: “اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي” يذكّر بأن الموت ذاته ليس خاتمة بل انتقال، وبالتالي لا معنى للشماتة فيه، لأن ما يبقى هو الحقيقة والمعنى لا الجسد الساقط.

نحو أخلاق تتجاوز الشماتة:
التحرر الحقيقي هو أن نفرح بزوال منظومة الظلم، لا بزوال الفرد الذي جسّدها.
أن ننظر إلى موت المجرم كخاتمة لمرحلة، لا كفرصة لتلويث أرواحنا بشهوة التشفي. فالعدالة التي نبنيها على الشماتة تظل هشة، أما العدالة التي تقوم على السمو الأخلاقي فهي وحدها القادرة على التأسيس لغد مختلف.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.