هبباي

صحيفة الهدف

سارة الجاك
#ملف_الهدف_الثقافي

خطواته مضطربة، يضاعف صداها توتره؛ يزرع الأرض قلقًا آتيًا وذاهبًا، محددًا أركان منزله الخاوي، متنفسًا العطن المنبعث من الغرف المطلة على البرندة؛ واسطة عقد حياتهما الثمين المنفرط. سادت فيها الفوضى: أواني مبعثرة، ملابس متناثرة، وبقايا أكل جافة على طاولة الطعام، أعقاب سجائر وقداحات قديمة. كمَّم الغبار أنفه بدلًا عن رائحة عطرها وبخورها. بنى العنكبوت بيته أعلى صورتها المعلقة على الحائط المقابل لمكان جلوسه الدائم، لكنه لم يستطع أن يبنيه على صورتها داخله.
اشتاق فقرنجا إلى أببا. تعدى توتره وخطواته المتشنجة باب المنزل إلى خارجه. كانت الشمس ترسل أشعتها الصباحية بنشاط إلى كل المنازل عدا منزله، لأن الشمس لا تضيء بيتًا شمسه غائبة.
ذلك المنزل الذي شهد زفافهما. كانا حينها في عنفوان شبابهما، تعلقا ببعضهما منذ خطواتهما الأولى في الحياة، حسب الحكايات التي رُويت عنهما. يكبرها بخمس سنوات، عاشا جمال الحياة معًا، هزما مصاعبها معًا، وضحكا على التحديات أيضًا معًا. كان مربوع القامة، ممتلئ الجسم، سمرته داكنة وبسمته مشعة. هو الآن خمسيني، غازل الشيب سواد شعره. يشتاق إلى أببا، يجمع حنّه إليها، حنًّا حنًّا، يتكثف الحنُّ مكونًا سحبًا تمور بالحنان. لم يدرِ ما يفعله بكل هذا الحنان المتزايد، الحنان الثائر. هو حائر الآن؛ فمنذ أن غادرت البيت، فقد هو معناه الذي كان يستمده من حمايته لها، تلبية حاجياتها وإسعادها. لا يضحك وهي حزينة، لا إجابات لأسئلته، فهي الحكيمة. لا أُنس لوحشته، فهي الخليلة.
بينما هو في هذا الحال، بانت هبباي من بعيد، ضامة شفتيها تصفر في حبور. هبباي بنت خالتهما، تصغرهما كثيرًا، لكنها صديقتهما. سألته عما يشعر به، وعن سبب حيرته، فأجاب أنه الشوق إلى أببا والحنين المتزايد لها. صمتت ريح الهبباي لبرهة؛ فقد كانت مع أختها الأرض أببا، وتعلم ما اعتراها من جفاف من شدة شوقها لحبيبها، شوقًا شقّ هضابها وسهولها. شاخت تلك السمراء، فقدت نضارة بشرتها، وخبأ لمعان عينيها.
سألته: ما الذي يمنعك من الذهاب إليها؟ قال: هي غاضبة، لذلك أبعدتني عنها. ألا تعرفين غضبتها؟ سألته: لماذا أغضبتها إذن؟ أجاب: لم أرد ذلك. شاغلتني حوريات بحر القلزم، فراقصتهن.
تهكمت به قائلة: وأين الحوريات الآن؟ طأطأ رأسه وأجاب: عدن لبحرهن، وتركنني لغضب أببا.
قالت الريح: دع لي هذا الأمر. سأسبقك إليها، ألطّف الجو وأخفف من حنقها. على أن تقسم أمامي ألا تغضبها مرة أخرى.
تهللت أساريره، رقص بفرح، وأقسم أن لا يرقص إلا معها ولها، وأن لا يرتشف إلا رحيقها، وتبًّا للحوريات وبحرهن. لكنه سرعان ما عبس؛ فهي ليست المرة الأولى التي يذهب فيها أحد في سبيل صلحهما، لكنها المرة الأولى من قبل هبباي.
ذهبت ريح الهبباي إلى أرض أببا، إلى منزل والديها القديم المهجور في الحي العالي. وجدتها بائسة وحزينة، مسحت دمعتها التي على خدها، وطلبت منها أن تبتسم وتستعد لاستقبال فقرنجا. أشاحت أببا بوجهها عن الريح الرسولة التي لم تتركها. نظرت مليًّا داخل عينيها، فلم تستطع دس شوقهما إلى محبوبها. باغتتها الريح بسؤال:
هل أتركه يعود أدراجه، هو وشوقه وحنينه الذي تجمع وتكثف، وفي انتظار الهطول على جبينك الوضئ؟ ليسقيك ويفيض حبًّا وخيرًا ونماءً؟
ألا ترين يا أببا ما حدث لمجرى قيشون؟ إنه على مشارف النضوب، وأبناؤك في الخرطوم يرون الحياة بعين واحدة، هي عين جيجون. وهم أبناء الرفاه والدعة. جيجون لا قِبل له بالصحراء وحده. وقد تعاهدتِ أنت والبحيرات قَبلاً على رعاية الصحراء وسقاية زائريها. هل تُخلِفين العهد؟
لم ترسلي قيشون، ومنعتِ الأتبراوي من المضي قدمًا. أحفادك في الدلتا يعانون من العطش الذي حكمتِ به عليهم، جراء غضبك من فقرنجا ومنعه من الهطول عليك. أي عدل هذا؟ وأي عقاب أوقعته بالجميع؟
وقفت أببا شامخة كجبالها، مسحت المسافة من مكانها إلى الدلتا، رأت وهن قيشون ومسكنة جيجون، ومشقة أبنائها في الحصول على الماء من باطن الأرض وقد اعتادوا عليه من سطحها. راقبت صمت الأتبراوي، سمعت شكوى أحفادها في المصب.
تكورت أببا على نفسها، دست قلبها بعيدًا، حتى ظنت الريح أنها ستغفر لفقرنجا ليقترب، لكن أببا هبّت واقفة وسلكت طريقًا فرعيًا قديمًا يُنزل بها إلى كهف تعرفه وحدها. كانت خطواتها صغيرة وسريعة، تخبّ في مشيتها، كأن مغناطيسًا يسحبها إلى مرامها. وصلت إلى قلب الكهف، جثت على ركبتيها، وبكت حزنها وخذلانها لأول مرة منذ عامين، فشلت فيهما كل محاولات رتق ما انفتق من حب.
فتحت جرحها، سال منه دم أسود نتن الرائحة، غسلته بملح دموعها. ولولا الأبناء والأحفاد ما فعلت ذلك. لم تدرِ أن شفاؤها يعنيها هي أولًا، ويعيد لها حياتها قبلهم أجمعين.
بكت حتى روت أرض الكهف الجافة، فأخضرت. نادت الخضرة ضوء الشمس، فأضاء الكهف. كحلت أببا عينيها من ضوئه، فعاد لمعانهما. ضربت بقدميها على الأرض، فانفجرت عينان. اغتسلت من الأولى وسقت خلايا بشرتها، فابتسمت سمرتها وأنارت. أخذت من الأغصان مشطًا سرحت به شعرها المبلل، شربت من العين الثانية وسقت أرض الكهف، فنمت يقطينة بجوارها أكلت من ثمارها، فامتلأ قدها الواهن، انتصب صدرها، وانقسم خصرها.
فتحت ساقيها لنحلات العسل، سمحت لهن بصب شمعهن في مهبلها ليعدن لها عذريتها الأولى. استبدلت الزوريا التي اهترأت بأخرى جديدة، خاطتها من حرير دودات الكهف، وطرزتها بخيوط ذهبية.
مضى النهار كاملًا وهي داخل الكهف، أعقبه الليل وما زالت هناك. خضبت قدميها وكفيها من دم جرحها الأحمر الذي تجدد، بتذكرها لرقصة فقرنجا والحوريات. كن عندما يضربن بأقدامهن الأرض، تنزل الأقدام على قلبها أولًا، وعندما تشع ابتسامته لهن، يرسل خنجر ابتسامته ناحرًا فؤادها.
أكملت طقوس زينتها، تعطرت بمسك أرض الكهف. النساء لا يكبرن بمرور السنوات، لكنهن يشخن بالخيانة.
أشرقت الشمس، خرجت أببا عروسًا في يوم عرسها. زفّتها ريح الهبباي التي كانت تنتظرها خارج الكهف كما أمرتها، بالدفوف والغناء والرقص. اصطف أبناؤها الذين أكلهم القلق عليها، وظنوا أنها ذاهبة بلا أياب. لكن روحها دبت في أوصالها من جديد. ومع كل خطوة تخطوها، يخرج ماء الأرض التي تطأها زلالًا عذبًا. بدأ قليلًا ثم زاد حتى تدفق.
وصلت إلى قمتها. اقترب فقرنجا، نظر إليها مليًّا داخل عينيها، فلم تبتسم. لم يستطع فقرنجا عليها صبرًا، ذُهل من جمالها وشبابها الوليد، فانهمر مالئًا بحيرة تانا، تدفق عنيفًا في بحر دار، ثم قيشون الذي اندفع إلى الخرطوم فاحتضنه جيجون.
أقيمت الأفراح والولائم على شرف زيارتها لمقرن النيلين. تواصلت ليالي الخير، وحفّها الغناء والسرور. عند شاطئ الروح البحري، وقفت جموع الكرنفال تتوسطهم أببا. كانوا حفاة، غازلتهم رمال الشط الرطبة المنعشة. لحظة وقوفهم، هاج العشّاري تاركًا جزيرته، معكرًا صفاء ماء وجه النهر. منّى نفسه بفريسة قاصية.
همست أببا لهبباي بأن: هبّي وأزجريه، لا مكان لغادر بيننا. يعلو صوت الطرب والغناء، ثم تهب هبباي، فتتساقط أوراق سدر وجريدات نخل وبعض تمرات على الماء. يهرب العشاري عائدًا إلى جزيرته وهو حسير.
يمضي الأنس وتستمر البهجة:
“يا عديلة يا بيضاء، يا ملايكة سير معاه الليلة شوي.”
أببا عروس كل يوم، وفقرنجا عريس مرة أخرى. فهو يدفع مهرها مضاعفًا، إلا أن نظرتها المعاتبة، تحيل كل الأفراح إلى أتراح.
وهبط الكرنفال قاصدًا المصورات. هناك صلّت أببا لله شكرًا على هدايته لها لما فيه صلاح أمرها وأمر أبنائها. صلّى الجميع خلفها حامدين وشاكرين. سعت بين صفا المصورات ومرواها. حينها فقط انكسرت المرأة، وعاد مجد بكّة. أوفت أببا بوعدها للبحيرات، خرج الأتبراوي عن صمته، فحمل جريدات نخله مبشّرًا بأمه العروس، التي أهدته شُبّالًا للذِكرى.
واصل الكرنفال هبوطه، محفوفًا بالزغاريد والأهازيج:
“عديلة أوو ولا ريف جلي الله.”
قضى العروسان ليلتهما في أسوان، أعادا ذكرى يوم دخلتهما الأول. الأرض هناك أكثر انبساطًا، البيوت مزخرفة وملونة ورحيبة، رغم ظلال الخوف الجديدة التي تتخلل تفاصيلها. ليكن كل جديد بدعة؛ في القديم كان الودّ والإخاء، وليظل.
صباحًا حملوا خيراتهم وذهبوا بها إلى الدلتا. في الطريق باركوا الأراضي شرق النيل وغربه، زاروا الأهرامات والمعابد، أعادوا إليها مجدها وألقها. باركوها وباركتهم. لكن في كل ذلك، كانت هي أمامه، بخطواتها الساقية للأرض، وهو خلفها متعقبًا أثرها بهطوله وانهماره.
غفرت، لكن بقلبها جرحٌ يئن، كأن الغفران لا يكفي وحده ليُسكته.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.