
سمير لوبه
#ملف_الهدف_الثقافي
لم يكن شارع الجواهر بحي الحضرة في الإسكندرية، قرب كوبري الإبراهيمية، بحاجة إلى لوحة إعلانية كي تدل المارين على قهوة الدمرداش التي تتوسطه، يكفي أن يتسلل إلى أنفك عبق الشاي المغلي على مهل فوق كانون الفحم، فينقاد إليها قلبك قبل قدميك. الدمرداش لم تكن مقهى إنما مرسى الأرواح المتعبة، وواحة شعبية أصيلة، واجهتها البسيطة وكراسيها القش وطاولاتها المعدنية تروي قصة عمرها أكثر من نصف قرن، وداخلها يختبئ الزمن الجميل. محمد الدمرداش، أو كما يعرفه الجميع بـ “أبو شنب”، يقف خلف النصبة، لا يرفع عينيه عن براد الشاي النحاسي، إلا ليحيي زبونًا بابتسامة صامتة. بعد العصر تبدأ القهوة في استعادة أنفاسها، الكراسي الخشبية تُسحب بخفة، والشيشة تُجهَّز، صوت الأغاني يصدح من راديو قديم. يحتسي الريس عباس أول كُباية شاي، ويغمض عينيه كأنما يتذوق لحظة مفقودة من شبابه. الشاي هنا له طقوس، أبو شنب يوقد الفحم بعناية، يضع البراد فوقه ببطء، ويضيف ورقتين من النعناع، ثم يُنزل البراد عن النار ويغطيه بمنشفة مبلولة حتى “يخرط الشاي ويهدأ نفس البراد” كما يقول دائمًا. الشاي عنده له نكهة خاصة، ووعد بالسكينة. يجلس وفي يده كُباية الشاي عم عبده الفكهاني، رجل تخطى السبعين، يحكي للجالسين عن حكايات صعايدة المراكب الشراعية التي تمر في المحمودية، وهو يجلس معهم أثناء إغلاق كوبري النزهة، ويشرب معهم شاي الراكية. كانت القهوة مكانًا يُدار فيه الرأي لا النميمة، وكلما تزايدت الحكايا، سكب أبو شنب الشاي في الكبايات الزجاجية الصغيرة. وتمر السنوات، ويتغير شارع الجواهر، وتحل الأبراج الشاهقة مكان الفلل والبيوت القديمة، ظهرت الكافيهات، واختفت بعض الوجوه، وجاءت أخرى، ورحل الدمرداش، وظلت قهوته شاهدة على زمن لم يبق منه سوى رائحة الشاي المغلي على الفحم، وصدى أغانٍ قديمة تشق جدار الصمت بين زمنٍ انقضى وزمنٍ لا ينتظر أحدًا.
في الحضرة تبقى قهوة الدمرداش ذاكرة حية، وصندوقًا أسودَ مليئًا بضحكات رجالٍ لم يُهزموا رغم تعبهم. من يجلس هناك يحتسي مع الشاي الزمن الجميل.
Leave a Reply