د.توتا صلاح مبارك
#ملف_المرأة_والمجتمع
مدخل أول
كانت جالسة تلتحف الأرض بجانبه، ترنو إليه بعينين بريئتين تسيلان حباً وتعلّقاً يفوق سني عمرها الخمس. امتدت يدها المرتعشة لتمسح بعض حبيبات تراب تناثرت على لحية والدها، قذفت بها فأس كان يهوي بها على الأرض لتعميق حفرة في جوفها.
بادلها الأب نظرات تنافس فيها الحب والتوجس من فراق متعمّد وشيك. نظرات كان يمور فيها صراع عنيف بين إرث أعوج يقود إلى فراق سرمدي، وغريزة أبّوة تحتم صون الأبناء وتقتضي حمايتهم.
واصل هو حفر حفرته، وواصلت هي النظر إليه بحب.
مدخل ثاني
جلست “رؤى” تحتضن قطعةً منها، طفلها الصغير، وهي تنظر إليه بعينين تقطران حباً و”رؤىً” لقادم أبهى. أخواتها بقربها يتبادلن حديثاً يضوع وداً ويرشح حنيناً وذكرى، ثم تمهره دعاء أمهن لهن وقد غلّفت قلوبهن وشائج الأخوة والمحبة والرحمة. كنّ كلهن طبيبات.
دلف “هو” إلى داخل المكان، بوجه ينوء بعينين تلتهبان شراً وقبحاً، ويدٍ تحمل سكيناً عطشى للدم!
مدخل ثالث
بخطوات مليئة برهق يوم امتدّ رعايةً للمرضى وتطبيباً لأوجاعهم، سارت خارج المستشفى تحفها دعوات أولئك وهؤلاء فتفيض جمالاً و”روعة” كاسمها.
ظهر هو حيث لا يجب أن يظهر، يقطر وجهه دمامةً وبشاعةً، وتلتمع عيناه شراً كالتمع سكينٍ في يده!
مدخل رابع
مدخل آخر.. وتتكرر ذات “المداخل” وذات المشاهد بأنساق شتى!
“وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ”
قتلوها خوف عار وإملاق وكان الزمان “جاهلياً”، لم يسطع فيه ضوء لحق أو ينبثق شعاع لحقيقة. قتلوا “البراءات الصغيرة” ولا ذنب لهن أو جريرة، غير أنهن “إناث”.
فما لزماننا هذا يعيد صناعة “الوأد”؟! إنه “وأد جديد”، حيث “تطعن” المرأة و”تذبح” من الوريد إلى الوريد بسكين رجل تسكنه هواجس الجنون، والدونية، والاستعلاء المتوهم. نعم، إنه “الوأد الجديد”، لكن “موءودة” زماننا الأعوج ليست طفلة صغيرة.. بل “طبيبة”!
هم فعلوها في “جاهلية” خشية عار وإملاق بقلوب وعقول موصدة بالجهل، فما لهم يفعلونها الآن؟ أهو خوف من تفوق وتميز أنثوي وسطوع نوعي؟
إن أي عنف يطال امرأةً، معنوياً أو جسدياً أو مادياً، هو مشروع “وأد” وقتل.
فلتحموا بناتكم وحصنوهن من سوءة “الوأد الجديد” بتربية أولادكم “الذكور” وتنشئتهم على أسس ومعايير لا تستند ولا تتكئ على تميز وتفوق نوعي، ولا تحفز وتؤسس لاستعلاء ذكوري.
احموا بناتكم وحصنوهن بأن تغرسوا فيهن ألا يتحملن الضيم والظلم والطغيان، وأن ينتصرن لأنفسهن وليس “لمؤسسة اجتماعية” إن أبانت سيماء التشوهات وعلائم الاهتراء. ولا تنقصني الجدية إذا قلت: علِّموهن كيف يحمين أنفسهن جسدياً إن تغوّل معتوه أو تطاول مشوّه!
قالت الشاعرة سعاد الصباح:
يا واضع التاريخ تحت سريره الأرض تحتي دائماً محروقة والأرض تحتك مخمل وحرير
فرق كبير بيننا يا سيدي فأنا مقيّدة وأنت تطير.. يا أيها المتشاوف.. المغرور.. فرق كبير بيننا يا سيدي فالأنثى حضارة، والطغاة ذكور.
وأقول: نعم، كل الطغاة ذكور.. وليس كل الذكور طغاة! فلا تبذروا نبتة الطغيان بدواخلهم! فلا تسقوها ولا ترعوها لتجنوا طغاة!
قال محجوب شريف في “نقطة ضوء”:
بختي بختي.. أنت بتي.. أمي وأختي.. همي شيلي.. شيلي مني.. مني ختي..
“البت شيالة الهم”، و”شُعبة البيت”، و”حمالة” المسؤولية، لم يعد ذلك حلماً شفيفاً كما تغنى به “محجوب شريف”، بل أصبح واقعاً يسكن حياتنا بقوة ويتوهطها بثبات.
وكما حكى لي أحد الأصدقاء الذي رافق والدته لمعاودة أحد الأطباء في عيادته، فدُهِش لغياب الرجل! فقد كان كل رفقاء المرضى “إناث”! أختاً أو ابنة، حفيدة أو قريبة!
“أدت أبوها مرتباً سدّت دين دكان حسين كستني ثوب نجدنا كم وكم مرتبة جهزت بيتنا القديم السقف ذاك والمسطبة”
البنت السودانية تفعل كل الذي ذكره “محجوب شريف”، فلا غرو أن غدت عصب الاقتصاد في الأسرة وعموده الساند. أما “الأخ” الشقيق فلا أود أن أقول إنه “يفتل شاربه” بانتظار سانحة “وللذكر مثل حظ الأنثيين”!
فاحذروا “الوأد الاقتصادي” أو “الوأد المالي”، فهو أحد تجليات “الوأد الجديد”.
وأردد مع الرائع حسن خطاب:
حتجي البت الحديقة.. فاردة أنسام في طريقها شاتلة ألوان..
حتجي البت الحديقة حتجي اللي بيحدث بريقها ضجّة الضوء في المكان حتجي اللي من بدري جات من ظلمات السكات ضاوية ساحات انتمت لفجر فات وبتنتمي لعصور جديدة حتجي البت الحديقة ضاحكة.. منتصرة.. وعنيدة آملة.. مزدهرة.. وجديدة حتجي اللي من بدري جات ناسفة أزمان السبات واصفة للناس الطريقة وللعصافير الجهات نعم.. حتجي البت الحديقة ضاحكة.. منتصرة.. وعنيدة..

Leave a Reply