“أون لاين، في حضرة تجربة جنوب أفريقيا”

صحيفة الهدف

بدون ألوان // حمدي صلاح الدين

أتاحت لي الظروف الاجتماع أون لاين لساعات مع السيد رولف ماير، وزير الدفاع الجنوب أفريقي الأسبق وأحد مهندسي الانتقال في جنوب أفريقيا، وبرفقته عضو البرلمان الجنوب أفريقي السابق و احد مهندسي الانتقال في جنوب افريقيا ، السيد محمد بابا، في حديث طويل شيق، نقي وشفاف عن تجربة الانتقال الديمقراطي في جنوب أفريقيا.

شهدت قارة أفريقيا، منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، العديد من التحولات والأحداث السياسية حيث اتجهت دول القارة في معظمها إلى تبني أشكال مختلفة من الديمقراطية تقوم على أسس عدة: أولها أن التعددية السياسية يجب أن تُترجم إلى تعددية فعلية عبر الأحزاب السياسية وتداول سلمي للسلطة بينها، وثانيها أن القرار السياسي يجب ان يكون ثمرة تفاعل بين القوى السياسية ويقوم على المساومة للوصول إلى حلول وسط، وثالثها احترام مبدأ الأغلبية كآلية لاتخاذ القرار والفصل بين وجهات النظر، ورابعها المساواة السياسية من خلال منح صوت واحد لكل مواطن، وخامسها تحقيق مفهوم الدولة القانونية من خلال وجود دستور، وخضوع الحكام للقانون، والفصل بين الدولة وأشخاص الحكام، وتدرج القواعد القانونية، وضمان الحقوق الفردية، مع وجود رقابة تشريعية وقضائية على الهيئات الحاكمة.

كانت اللقاءات الأولى بين حكومة جنوب أفريقيا ونيلسون مانديلا برعاية جهاز الاستخبارات الوطني بقيادة نيل بارنارد ونائبه مايك لو. وقد جرت هذه الاجتماعات في سرية تامة، وكان هدفها التوصل إلى تفاهم حول إمكانية بدء محادثات سلام مستقبلية.

ولتسهيل هذه اللقاءات مع الحفاظ على السرية، رتب بارنارد عملية نقل مانديلا عام 1982 من جزيرة روبن إلى سجن بولسمور، مما أتاح له ظروفاً أفضل وإمكانية لقاءات أكثر سهولة دون كشف العملية.

عُقد أول اجتماع رسمي بين مانديلا وحكومة الحزب الوطني في عهد الرئيس بيتر وليم بوتا. ففي نوفمبر 1985، التقى الوزير كوبي كوتسي بمانديلا في المستشفى أثناء تعافيه من عملية جراحية. وعلى مدى أربع سنوات تالية، جرت سلسلة لقاءات مهدت للمفاوضات، لكنها لم تحقق تقدماً كبيراً وظلت سرية لسنوات لاحقة.

وفي فبراير 1990، أعلن الرئيس دي كليرك في خطابه أمام البرلمان رفع الحظر عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والمنظمات الأخرى، والإفراج عن نيلسون مانديلا بعد 27 عاماً من السجن.

يقول المصطفى بوجعبوط، مدير المركز المغربي للعدالة الانتقالية ودراسة التقارير الدولية:
“شهدت جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصري تمييزاً ممنهجاً بين البيض والسود، واضطهاداً عرقياً ولغوياً، نتجت عنه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان: اعتقالات تعسفية، اختفاءات قسرية، تمييز على أساس الهوية والانتماء، إضافة إلى الجرائم الاقتصادية والسياسية والصراعات الأيديولوجية. ولوقف هذه الانتهاكات، اعتمدت جنوب أفريقيا آليات عدالة انتقالية ذاتية أسهمت في الاستقرار والتغيير السياسي ومحاولة القضاء على العنصرية، من خلال قوانين ومؤسسات جسدت قيم المصالحة والوحدة الوطنية، ورسخت خطاب حقوق الإنسان ومواجهة إرث الماضي.”

لعبت لجنة الحقيقة والمصالحة دوراً محورياً في البناء الديمقراطي، إذ أصدرت تقريراً ختامياً تضمن توصيات بإصلاحات مؤسساتية وقانونية تمنع تكرار الانتهاكات وتضمن مستقبلاً أكثر عدلاً وديمقراطية. غير أن التجربة واجهت تحديات حالت دون استكمال بعض جوانبها، خصوصاً في مجال معرفة الحقيقة الكاملة والتعويضات ومبدأ عدم الإفلات من العقاب.

يقول رولف ماير، وزير الدفاع الجنوب أفريقي الأسبق وأحد مهندسي الانتقال:
“أمام الإرث الثقيل من الصراع العرقي والقبلي، كان علينا أن نعزز ثقافة ‘الوطن’ كقيمة عليا تتجاوز الولاءات القبلية والإثنية. لم نعتمد على الساسة، لأنهم كثيراً ما يعقدون اتفاقات خلف الكواليس قد تتعارض مع إرادة الشعوب. لذلك بدأنا بالفئات التي يثق بها المجتمع.”

أما محمد بابا، عضو البرلمان السابق، فقال معضدا حديث ماير :
“اعتمدنا على أربع ركائز: الصحافة، المؤسسات الدينية، الجامعات، ومنظمات المجتمع المدني. هذه المؤسسات تحظى بالاحترام في المجتمع، وكان لها دور أساسي في رفع وعي الناس بضرورة تقديم الولاء للوطن على القبيلة والإثنية.”

و اضاف ماير:
“كان ملف العدالة شائكاً، فلم نتمكن من الاستجابة لأصوات ‘المحاسبة’ قبل صياغة الدستور. بدأنا بالدستور، ثم أنشأنا مفوضية العفو والعدالة. ولجنة الحقيقة والمصالحة، التي كانت الأولى بين تسع عشرة لجنة مشابهة في العالم، رآها كثيرون ركناً أساسياً في الانتقال نحو ديمقراطية حرة. ورغم بعض الأخطاء، اعتُبرت التجربة ناجحة بشكل عام.”

بدأت العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا في سياق إنهاء نظام الفصل العنصري، عبر لجان الحقيقة والمصالحة التي كُلفت بكشف الانتهاكات وإنصاف الضحايا وتسوية الملفات العالقة بطرق غير جنائية. وقد تُوجت التجربة بإطلاق سراح نيلسون مانديلا عام 1990، ثم مفاوضات المؤتمر الوطني الأفريقي مع الحكومة، وصولاً إلى انتخابات 1994، وإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة عام 1995، التي أصدرت تقريرها عام 1998 متضمناً أكثر من 22 ألف شهادة، بينها ألفا شهادة علنية.

في النهاية، اكتفت جنوب أفريقيا بالاعتراف العلني بالانتهاكات عبر جلسات استماع للضحايا والجناة، مع استبعاد خيار المحاكمات، خصوصاً للفاعلين السياسيين الذين أسسوا لمسار الانتقال الديمقراطي القائم على سيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.

نواصل

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.