يوسف الغوث
#ملف_الهدف_الثقافي
يقول الراوي:
لما اشتدت شوكة العراق على عبد الملك بن مروان، خطب في الناس قائلاً: إن نيران أهل العراق قد علا لهبها، وكثر حطبها، فجمرها حار، وشهابها وارٍ. فهل من رجل ذي سلاح عتيد وقلب حديد أبعثه لها؟
ثم واصل حديثه: إن العراق كدُر ماؤها، وكثر غوغاؤها، واملولح عذبها، وعَظُم خطبها. فهل من ممهد لهم بسيف قاطع، وذهن جامع، وقلب ذكي، وأنف حميّ؟ فيخمد نيرانها، ويردع غليانها، وينصف مظلومها، ويداوي الجرح حتى يندمل، فتصفو البلاد.. فسكت القوم، ولم يتكلم أحد. فقام الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين، أنا للعراق.
فقال له عبد الملك: أنزل يدك يا حجاج.
ثم خطب في الناس قائلاً: ما لي أرى الرؤوس مطرقة، والألسن متعلقة؟ فلم يجبه أحد! فقام إليه الحجاج وقال: أنا للعراق. فقال له عبد الملك: أنزل يدك يا حجاج.
ثم خطب في الناس مرة ثالثة: من للعراق؟ فلم يجبه أحد. فرفع الحجاج يده مرة أخرى وقال: أنا للعراق. فقال له عبد الملك: أظنك صاحبها والظافر بغنائمها، فما هي علامتك وآيتك؟
فقال الحجاج: العفو والعقوبة، والاقتدار والبسط، والإدناء والإبعاد، والجفا والبر، والتأهب والحزم، وخوض غمرات الحروب. فمن جادلني قطعته، ومن خالفني نزعته، ومن نازعني قصمته، ومن دنا مني أكرمته، ومن طلب الأمان أعطيته، ومن سارع إلى الطاعة بجللته. فهذه آيتي وعلامتي. انتهى الحوار.
هو العراق سليل المجد والحسب،
هو العراق، فقل للدائرات: قفي!
شاخ الزمان جميعاً، والعراق صبي.
كان العراق، وكانت حكايات ألف ليلة وليلة، وكان التاريخ والتوريخ والتأريخ حضوراً. وكان سليل المجد والحسب، شهيد الحج الأكبر، أبو عُدي، خلاصة الصلاح، سلالة الأنبياء والرسل. كانت كبرياء الأرض أجمعها حاضرة، ترتل سورة الفسطاط برواية الدوري، ثم ترتحل إلى جمهورية الأنبياء في غياب مضنٍ..
هو العراق، لا اختلاج يصيبه، وإن استوى فيه الموت والبقاء. هو العراق.. كبير المعالي في مجده وبهائه. هو صدام الجلال والكبرياء والبهاء.
هو فؤادي الذي أصبح مخبولًا حدّ الوعي. هو أشواقي التي تحتاج إلى غياب آخر. هو عشقي الذي أحاول معرفة أمره وتفسير أحواله. هو نظري الذي يهتبل كلما حاول اختلاس الرؤية في وجهه المستدير. هو ألمي الممزوج بالأشواق، هو دمعي المزمجر على قارعة الطريق والهواء.
إن المقام فسيح، ومتسع للسهو.. وروحي تحتاج حصة تموينية من طلّتك البهية، يا عضالي المزمن، ونحيبي الشجاع. فأنا خائف يا سيدي على قلبي من الاندثار، فوجعي مطعون بحزن فراقك.
لست أرثيك. كيف يُرثى جنوح الروح للخلد وهي ضوء وماء؟ كيف أرثيك؟ كنت شمسًا تحيطها ظلماء، أسدًا طوقتَ قروداً، وأميرًا حفت به دهماء.
كيف أرثيك يا وجعي، يا ألمي، يا حزن السنين؟ كيف أرثيك وأنت كالفجر مسفر الوجه صلت، بينما الكل وجوه سوداء؟ قتلوك فينا يا سيدي وحبيبي، وإن كنت باقيًا فينا خلوداً.
ولن نبكيك.. كيف أبكيك؟ لا يليق البكاء! أفتبكي وأنت نجم تلألأ؟ أفتبكي وأنت تشهق رمزاً؟ لستُ أبكي عليك يا ألق الدنيا.. أفتبكي في مجدها العلياء؟ إنما أبكي العراق، كيف في لحظة طواه البلاء..
لقد كنتَ يا سيدي شامخًا مثل بابل وآشور، لقد كنتَ في زهوك العظيم، بعطرك الملائكي النفاذ. كنتَ رمزًا لفارس أشهب، كتبت قصته على جدران الخلود. لم تُشخص عيناك إلى الأرض، ولم تحنِ جبهتك العالية للغزاة. كنتَ يا قلبي كالمروءات يوم الوفاء.
ومن لي ببغداد تبكيني وأبكيها؟ من لي ببغداد؟ روحي بعدها يبست، وصوحت بها أبهى سناديني. فقيرة أحرفي، خرس دواويني، وعشش الحزن حتى في روازيني. لقد ضج جانبي الأيسر لوعة وشوقًا لك يا آخر النبلاء. فبعدك كل الاتجاهات تسير نحو المجهول.. سوف أحاول، دون جدوى، التواصل مع ميكائيل، آملًا أن يسوق لي بعضًا من سحب الفرح. فالوجع بعدك ليس له حدود، فقواميس الحروف تفيض دمًا ودمعاً. سوف أطفئ ضيّ النجوم، ثم أغمض أجفاني..
الرحمة والمغفرة للشهيد صدام.

Leave a Reply