الثقافة سلاح التحرر- كيف تشكّل الهُويّةُ العربيةُ جبهةً لمقاومة التخلف والاستعمار؟

صحيفة الهدف

أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

#ملف_الهدف_الثقافي

الثقافة ليست ترفًا، وليست زخرفًا يزيّن الهوية أو يكتفي برواية الحكايات عن الماضي. إنها ساحة صراع وجودي، حيث يتحدد مصير الشعوب بين أن تكون حرة سيدة أو تابعة مقلدة. وكما قال الأستاذ ميشيل عفلق (الشعوب التي لا تقرأ تاريخها محكوم عليها بإعادة هزائمها). لقد أثبت التاريخ العربي أن البنادق قد تحتل الأرض، لكن الكلمة الحرة والفكرة العميقة والموروث المتجدد يمكن أن تحمي العقل من الاستعمار وتفتح الطريق نحو التحرر. منذ أن دخلت حملة نابليون مصر عام (1798) حاملة المطبعة مع المدفع، صار جليًا أن الحرب الحقيقية ليست على الجغرافيا فقط، بل على الوعي والذاكرة.

منذ ذلك الوقت، كانت الثقافة خط الدفاع الأول. الصحافة العربية في مصر وسوريا والعراق لم تكن مجرد نشرات إخبارية، بل منصات مقاومة تكشف جرائم الاحتلال وتبني الوعي الجمعي. جريدة (الأهرام) و(الهلال) لم تكن حبرًا على ورق، بل نارًا مشتعلة في ضمير أمة تبحث عن الحرية. المسرح العربي بدوره لم يكن للتسلية فقط؛ أحمد شوقي حين كتب (مصرع كليوباترا) لم يروِ أسطورة، بل صاغ بيانًا ثقافيًا ضد الوصاية الأجنبية. وفي فلسطين، حين أنشد إبراهيم طوقان قصيدته (موطني)، تحولت الأبيات إلى سلاح رمزي يواجه الاحتلال، وأثبت الشعر أنه جيشٌ بلا عتاد لكنه قادر على توحيد الملايين خلف فكرة.

وإذا كانت الثقافة قد قاومت الاحتلال بالسيف الرمزي، فإن اللغة كانت الميدان الأوسع للصراع. معركة التعريب في المغرب العربي لم تكن مجرد خيار لغوي بل فعل مقاومة ضد فرنسة الوعي، كما صاغه المفكر مالك بن نبي. وفي المشرق، واجهت مجلة (العروة الوثقى) سياسات التتريك بالتأكيد على مركزية اللغة العربية كهوية جامعة. اللغة هنا ليست أداة للتواصل فحسب، بل حصن للذات وحافظ للذاكرة ومجال لتجدد الهوية.

لم يكن غريبًا إذن أن يقترن كل مشروع نهضوي عربي بمشروع ثقافي. رفاعة الطهطاوي، بترجماته في (تخليص الإبريز)، لم يكن مجرد وسيط بين باريس والقاهرة، بل كان يؤسس لأول حوار حضاري بين الشرق والغرب بعيون عربية ناقدة. عبد الرحمن الكواكبي في (طبائع الاستبداد) لم يكتب فقط عن الاستبداد، بل ربط بين التخلف الداخلي والاستعمار الخارجي، كاشفًا أن التحرر لا ينجح إلا إذا كان مزدوجًا، من الطغيان ومن الهيمنة. وقسطنطين زريق حين صاغ (معنى النكبة) أعاد تعريف الهزيمة لا كقدر بل كفرصة لبناء وعي جديد يعيد النظر في علاقتنا بالعصر وبأنفسنا.

إن المشاريع الثقافية المقاومة لم تكن يومًا نظرية بحتة. دار الكتب الوطنية في الجزائر، التي ازدهرت سرًا تحت الاحتلال الفرنسي، شكلت مختبرًا للذاكرة الوطنية. في سوريا الستينيات، حمل مشروع (الأصالة والمعاصرة) البعد القومي للثقافة العربية، محاولة لردم الهوة بين الماضي والحاضر. وفي العراق زمن الحصار، تحولت معارض الكتاب إلى فضاءات مقاومة، تحمي الفكر من العزلة وتحافظ على جذوة الإبداع في زمن القمع.

ولعل تجربة الحكم الوطني في العراق تقدم مثالًا بارزًا على الثقافة القومية حين تتحول إلى مشروع دولة. فالعراق في العقود الأخيرة من القرن العشرين سعى إلى توظيف الثقافة كجزء من مشروعه النهضوي، عبر الاهتمام بالتراث العربي–الإسلامي، وتعريب التعليم الجامعي، ورعاية الفنون والآداب بوصفها أدوات لبناء وعي قومي يتجاوز حدود القطر إلى فضاء الأمة العربية. وتظل شاهدًا على أن الثقافة القومية ليست فكرة نظرية بل ممارسة يمكن أن تترجم إلى سياسات تعليمية وإعلامية ومؤسسات فكرية.

واليوم، في ظل ما يعيشه الوطن العربي من تفكك وحروب أهلية وتدخلات أجنبية، تزداد الحاجة إلى استلهام هذا البعد من التجربة العراقية، لا لاستنساخها بحذافيرها، بل لاستخلاص دروسها، وذلك لأن الثقافة القومية قادرة على أن تشكل جدار صدّ أمام مشاريع التفتيت، وأن تعيد للأمة العربية ثقتها بذاتها، وأن تجعل من الهوية المشتركة قوة إنتاج للحاضر والمستقبل بدل أن تكون مجرد حنين إلى الماضي.

أما اليوم، فإن معركة الثقافة لم تنتهِ بل تغيرت ساحتها. الاستعمار الجديد لم يعد يرفع رايات الجيوش، بل يمرر أدواته عبر العولمة الثقافية. إدوارد سعيد كشف كيف تحولت الثقافة إلى أداة للهيمنة الناعمة، حيث يعاد تشكيل صورة العربي في المخيال الغربي كتهديد أو كائن أدنى. تقرير اليونسكو لعام (2023) أظهر أن (78%)، من المحتوى الذي يستهلكه الشباب العربي مصدره غير عربي، وهو ما يعني أن معركة الوعي تجري اليوم على منصات التواصل أكثر مما تجري في قاعات الجامعات والمدارس.

المخاطر حاضرة بوضوح، في سرقة الآثار العراقية لتفريغ الذاكرة من رموزها، وتغريب القوانين بما يقلص دور اللغة العربية في التعليم والدستور كما في بعض التجارب، ومحاولات التطبيع الثقافي التي تسعى لاختراق الوعي العربي عبر الفن والإعلام. لكن بالمقابل، لا تزال هناك مقاومة صلبة، مثلاً بيت الشعر الفلسطيني مثال على تحويل الكلمة إلى خندق، وتجربة تونس في دسترة اللغة العربية نموذج على صيانة الهوية بالقانون، ومبادرات التوثيق الرقمي للمقدسات والذاكرة تثبت أن الثقافة العربية قادرة على أن تقاوم حتى في الفضاء الافتراضي.

لهذا، فإن الاستراتيجية الثقافية المنشودة يجب أن تكون أكثر من مجرد شعارات أو فعاليات رمزية. المطلوب هو مشروع متكامل يعيد الاعتبار للثقافة كجبهة تحرر. يبدأ هذا المشروع بتوثيق الذاكرة الجمعية عبر منصات رقمية تحمي التاريخ من التزوير والنسيان. ثم يأتي تعريب العلوم لا كحلم رومانسي بل كضرورة لتفكيك التبعية المعرفية، وهو ما بدأت بعض المؤسسات العربية في إنجازه مثل المعهد العالي للترجمة بالجزائر. ويجب أن يترافق هذا مع إنتاج أدب مقاوم يضع فلسطين في قلب الرسالة الثقافية، وحماية المقدسات الثقافية على رأسها القدس والأقصى وغزة باعتبارها أيقونة الهوية، وأخيرًا بناء منصات عربية مستقلة لا تخضع للهيمنة الرقمية الغربية، مثل تجربة (ميدان) التي أثبتت أن الإعلام المقاوم قادر على منافسة الكيانات العملاقة.

إن الثقافة التي لا تقاوم تصبح مجرد ذكرى، أما الثقافة المقاومة فإنها تتحول إلى وعد بالمستقبل. كما قال محمود درويش) الثقافة، التي لا تقاوم تصبح جزءًا من الأرشيف، التي تقاوم تصبح جزءًا من المستقبل. (وبقدر ما نتمسك بثقافتنا كهوية حية ومشروع تحرري، بقدر ما نصنع لأنفسنا مكانًا في عالم متغير. فالثقافة ليست ترفًا للنخب، بل هي سلاح الأمة العربية في مواجهة التخلف والاستعمار، وشرطها الأول أن تظل حيّة، مبدعة، مقاومة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.