
أحمد عوض الكريم
#ملف_الهدف_الثقافي
مع تلكم الحركة الدؤوبة، التي عَجَّ بها رصيف محطة أبو حمد، التي اتخذت زينتها ذلك المساء، ظل ذلك الصغير يترقب وصول القطار ..
بين الفينة وأختها كان يسترق الخطى للتجوال وسط ذلك العالم المصطخب جمالًا وسحرًا ، إلاّ أن ساعدىّ والدته كانتا أقوى من فضوله فيجلس مُكرَهًا مُلازمًا لرتلِ الحقائب المتراصة .. عندما سحب أحدهم تلك القنطرة الخشبية النحيفة ،التي كانت تربط بين الرصيفين، علم القوم أن أوان مقصودهم قد أَزِف ..
ماهي إلا دقائقَ قليلاتٍ حتى دَوّت من على البعد الصافرة المحببة، وضوء القاطرة المبهر يخطف الأبصار وخلفها يتلوى ذلكم الثعبان الأبيض عظيم الهامة وقد كللت سطحه حشود أطارت لُبّ ذلك الصغير ..
كيف لهؤلاء أن يثبتوا على ظهره، بل وبعضهم قد نام قرير العين هانيها ..
رؤوسٌ كُثُرٌ قد اشرأبت من خلال نوافذ العربات المتحركات وهي تستكشف وتستمتع بروائع المحطة، بعد أن فارقتهم المدنية مُذ مغادرتهم لوادي حلفا ..
ما بين رصيف المحطة وسوق المدينة المجاور، ثمة سوقٍ أخرى تنتعش مع وصول القطار ..
غير بعيدٍ من مكاتب محطة السكة حديد تنتشر بعض الطاولات بين المواقد المشتعلة، التي تتصاعد منها أبخرةً تتضوّع بمزيج من نكهات القهوة، الشاي، الحليب والحرجل .. على أن أعظم تلك المواقد قد تحمل عبء ذلكم الصاج وكرات الزلابية تتقافز على مسبح من الزيت الملتهب وبشرتها تأخذ فى الإسمرار رويدًا رويدًا .. انهمك أحدهم على أكياس صغيرة يحكم ربطها بعناية وينسقها في مجموعات تتحد مكنوناتها ما بين أعشاب خضراء، وأخرى ترابية قد شدت انتباه ذلك الصغير حتى علم من والدته أنها (الجَرْدِقَة) وهي من الأرض المباركة، التي يتسع طيف استخداماتها عند الأولين .. أُخريات جلسن في مجموعة صغيرة وقد تناثرت أمامهن أطباق حفلت بكل ماهو شهي يسيل له لعاب صاحبنا : فول سوداني، تسالي، نبق وبعض الحلوى من السمسم المحمص ..
أعظم ما كللت ذلك المشهد المتموج هي البشاشة، التي نقشت أثرها العميق على ذاكرةِ صغيرنا .. تحرك موكبنا وجمع من المودعين قد أحاطنا تلقاء عربة الدرجة الأولى وقد توزعت حقائبنا على عواتقهم ، بينما أحكم صاحبنا قبضته على يد والده وسط ذلك الزحام ..
دقائق قليلات تصَرَّمت، احتوتنا بعدهن تلك المقصورة من ذواتِ الأََسِّرةِ الأربع، فقد علا اثنتان منهما صنواهما بينما شُدَّت المَلاءاتُ البِيضُ عليهن جميعًا .. كانت سعادة صاحبنا عظيمة وهو يتمدد على السرير العلوي يرافقه كيس من الفول ١السوداني نفحته إياه حاجة زهراء ..
بينما ترتفع همهمات الوداع وهي تسابق قرع الناقوس المنتظر ، انهمك صديقنا في استكشاف محتويات تلك الغرفة الصغيرة ؛ فبجواره مروحة هواء صغيرة وهي تدور وتدور كدرويشٍ شاقَه الوجد في خيمة المولد .. النافذةُ كان أمرها عَجَبُ ، فقد أُسدِلت عليها طبقتان : الأولى زجاجية داكنة اللون بينما الثانية خشبية بيضاء وقد تخللتها فراغات مُستعرضة في نسقٍ بديع ؛ تحجب أشعة الشمس و لا تمنع الهواء من زيارتنا ..
مصباح كهربائي صغير قد إصفَّر لونه كان كافيًا ليشع ألقً١ا في الدار الجديدة .. كان صاحبنا يختلس النظرات كل حين إلى تلكم الكرتونة، التي اتخذت لها مقامًا جوار والدته وهي تعلم يقينا أنها ليست في مأمن من أطماع الغلامين مع شهى العبير المنبعث منها ،الذي قد أسال لعابهما .. وقد تنامى إلى علم صغيرنا أن شفرة فتح ذلك الكنز إنما تكمن في تحرك القطار، الذي يبدو أنه قد طاب له المقام بين الرصيفين .
مزيج من فرح التجربة الجديدة وتوجس من عالم لم يألفه ذلك الصغير من قبل، رغم ما يبثه والداه من تطمينات بأن شندي أكبر من أبي حمد وسيتيسر له أمر زيارة حديقة الحيوان بالعاصمة كما كان يود دومًا ..
ثمة انقباض أحس به مع اهتزاز العربة و١صرير عجلات القطار على القضيبين قد علا .
هنا أدرك صاحبنا أنه لابد مما ليس منه بد، وأن ساعة مفارقة نخلاته اللاتي أحبهن وبنطونه، الذي ألفه قد أَزِفَت ..
هَجَر الوكرَ ذاهلًا وعلى
عينيه شيء من الوداع الأخير
تاركًا خلفه مواكب سُحُبٍ
تتهاوى من أُفقها المسحور
هَبَط السفحَ طاويًا جناحيه
على كُلِ مطمحٍ مقبور
( عمر أبو ريشة )
Leave a Reply