بقلم: خبير اقتصادي
شهد الجنيه السوداني تقلبات حادة في قيمته مقابل الدولار الأمريكي عبر العقود، متأثراً بشكل مباشر بالتحولات السياسية والاقتصادية التي مرت بها البلاد. فيما يلي نظرة تاريخية على سعر صرف الجنيه مقابل الدولار في مختلف الحقب السياسية، مع تحليل للعلاقة بين هذه التغيرات والوضع السياسي:
1. فترة الاستقلال (1956-1958):
أ. الجنيه السوداني من أقوى العملات في المنطقة.
ب. سعر صرفه قريب من الجنيه الإسترليني.
ت. لم يكن هناك تداول فعلي بالدولار في السوق السودانية.
2. فترة الحكم العسكري عبود (1958-1964):
أ. ظل الجنيه السوداني قوياً ومستقراً.
ب. كان الدولار يساوي حوالي (0.29) جنيه سوداني.
ت. الجنيه كان مربوطاً بالدولار بسعر (2.87) دولار لكل جنيه سوداني واحد.
3. ثورة أكتوبر وحكومة الأحزاب (1964-1969):
أ. استمر الاستقرار النسبي للعملة.
ب. بعض التذبذب الطفيف.
ت. استمر الدولار عند مستوى (0.29-0.30) جنيه سوداني.
4. فترة انقلاب 25 مايو (1969-1985):
أ. السبعينيات: الدولار يساوي حوالي 0.30 جنيه سوداني.
ب. نهاية السبعينيات (1979): بداية تخفيض الجنيه، الدولار = 0.34 جنيه.
ت. 1983 (تطبيق قوانين سبتمبر): الدولار = 0.50 جنيه.
ث. 1985 (قبيل الانتفاضة): الدولار = 4.90 جنيه.
5. فترة الانتفاضة (أبريل 1985) (1985-1989):
أ. 1986: الدولار = 2.50 جنيه (تحسن مؤقت).
ب. 1988: الدولار = 5 جنيهات.
ت. 1989 (عشية انقلاب الإنقاذ): الدولار = 12 جنيه.
6. فترة انقلاب المتأسلمين (1989-2019):
أ. 1990: الدولار = 20 جنيه.
ب. 1991: الدولار = 75 جنيه.
ت. 1992: الدولار = 132 جنيه.
ث. 1993: الدولار = 216 جنيه.
ج. 1994: الدولار = 400 جنيه.
ح. 1995: الدولار = 578 جنيه.
خ. 1996: الدولار = 1246 جنيه.
د. 1997: الدولار = 1576 جنيه.
ذ. 1999 (بداية تصدير البترول): الدولار = 2516 جنيه.
ر. 2005: الدولار = 2435 جنيه.
ز. 2011 (انفصال الجنوب): الدولار = 2.66 جنيه (إعادة تقييم).
س. 2018: الدولار = 52 جنيه.
7. فترة الحكومة الانتقالية لانتفاضة ديسمبر الثورية (2019-2021):
أ. أبريل 2019: الدولار = 47.5 جنيه (رسمي)، 73 جنيه (موازي).
ب. نهاية 2019: الدولار = 45 جنيه (رسمي)، 88 جنيه (موازي).
ت. فبراير 2021 (تعويم الجنيه): الدولار قفز من 55 إلى 376 جنيه.
8. بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 وحتى الآن:
أ. أواخر 2021: الدولار ≈ 600 جنيه.
ب. 2022: الدولار = 450-565 جنيه.
ت. 2023: الدولار = 1256 جنيه (موازي).
ث. 2024: الدولار = 2600 جنيه (سوق سوداء)، 2050 جنيه (رسمي).
ج. 2025: الدولار = 3000 جنيه.
تحليل العلاقة بين المتغيرات السياسية وسعر الصرف
يشكل تطور سعر صرف الجنيه السوداني مرآة عاكسة للتحولات السياسية الكبرى في البلاد، حيث تكشف البيانات عن علاقة عضوية بين الاستقرار السياسي وقوة العملة. ويمكن تحليل هذه العلاقة من خلال المحاور التالية:
1. الحروب والنزاعات المسلحة
أ. أدى انفصال الجنوب 2011 إلى فقدان 75% من إنتاج النفط.
ب. تسببت الحروب الأهلية في:
هروب رأس المال الأجنبي (تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 60% بعد 2011).
تدمير البنية التحتية الإنتاجية.
تحويل الإنفاق الحكومي من التنمية إلى التسلح (وصل الإنفاق العسكري إلى 30% من الموازنة).
2. السياسات الاقتصادية غير الرشيدة
أ. التخبط بين أنظمة الصرف المختلفة (ثابت، مرن، موازٍ).
ب. الإفراط في طباعة النقود (زادت الكتلة النقدية بنسبة 400% بين 2011-2018).
ت. إهمال القطاعات الإنتاجية (انخفضت مساهمة الصناعة في الناتج المحلي من 25% إلى 8%).
3. العزلة الدولية
أ. العقوبات الأمريكية (1997-2017) حرمت السودان من:
المساعدات المالية الدولية.
الاستثمارات الأجنبية.
التكنولوجيا الحديثة.
4. الفساد المؤسسي
أ. هدر الموارد عبر:
الصفقات المشبوهة.
المحسوبية.
سوء إدارة المال العام.
ب. تقارير الشفافية الدولية صنفت السودان بين أكثر (10) دول فساداً عالمياً.
5. الانقلابات العسكرية
أ. انقلاب 2021 أدى إلى:
تجميد المساعدات الدولية (خسارة 4 مليار دولار سنوياً).
تعليق عضوية السودان في منظمات إقليمية.
تدهور الثقة الدولية (انخفضت التحويلات المالية بنسبة 70%).
تعليق إعفاء الديون (23 مليار دولار).
6. غياب الاستقرار المؤسسي
أ. عدم استمرارية السياسات الاقتصادية.
ب. تغيير الوزارات والمسؤولين بشكل متكرر.
ت. غياب الرؤية الاستراتيجية طويلة المدى.
7. النمط التاريخي
أ. كل تغيير سياسي عنيف (انقلاب أو انتفاضة) رافقه:
هروب رؤوس الأموال (في 2019: خروج 3 مليارات دولار خلال 3 أشهر).
ارتفاع معدل التضخم (وصل إلى 400% بعد انقلاب 2021).
انهيار سعر الصرف (في المتوسط 300% بعد كل تحول سياسي).
8. ملاحظة مهمة
لتفسير ارتفاع قيمة الجنيه مقابل الدولار من (2435) في 2005 إلى (2.66) فقط في 2011 و(52) في 2018، تجدر الإشارة إلى التحول من الجنيه إلى الدينار ثم العودة للجنيه، وكان أحد الأهداف خفض التضخم نفسياً بإزالة خانتين عشريتين.
الخلاصة
تكشف هذه المعطيات عن معادلة واضحة: الاستقرار السياسي = استقرار اقتصادي، والعكس صحيح. فالعملة الوطنية ليست مجرد أداة تبادل، بل هي مؤشر حيوي لصحة النظام السياسي وشرعيته.
إن إعادة بناء قيمة الجنيه تتطلب أكثر من إجراءات اقتصادية، بل تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يضمن الاستقرار السياسي ويحقق العدالة الانتقالية.
الخاتمة
يشكل تدهور الجنيه السوداني سجلاً حياً لتاريخ البلاد المضطرب، حيث تظهر الأرقام بوضوح كيف أن كل منعطف سياسي كان يقابله انهيار اقتصادي. من العملة القوية في الخمسينيات إلى الانهيار الكارثي اليوم، تحكي أرقام الصرف قصة أمة عانت من سوء الإدارة والصراعات السياسية.
الدرس الأهم هو أن استقرار العملة لا ينفصل عن الاستقرار السياسي، وأن أي حل حقيقي للأزمة الاقتصادية يجب أن يبدأ بإيجاد تسوية سياسية شاملة (أولها إيقاف الحرب بدون شروط).
فالعملة القوية تحتاج إلى دولة قوية، والدولة القوية تحتاج إلى نظام سياسي مستقر وعادل. إن مستقبل الجنيه السوداني، كمستقبل البلاد نفسها، مرهون بقدرة السودانيين على تجاوز خلافاتهم وبناء نظام سياسي واقتصادي يحقق الاستقرار والتنمية. فكما أن انهيار العملة كان نتيجة للصراعات، فإن تعافيها سيكون ثمرة للسلام والإصلاح.

Leave a Reply