
العودة الطوعية والصراع حول الموارد باقليم دارفور
بقلم: أ. شمس الدين أحمد صالح
وفقا للتحليل العلمي للمنازعات والحروب الاهلية، والبينية فى أي بلدة من البلدان، يمثل عامل الصراع حول الموارد الطبيعية، الشحيحة، والمحدوة، غير المنماة، أحد أسباب هذه المنازعات، ولذا لم تكن دارفور إستثناءًً من ذلك. حيث أكد الباحثون، أن أحد أسباب الصراعات فى دارفور هو الصراع بين مكونات الإقليم حول الموارد الطبيعية (الارض-الماء-الكلا). هذه الموارد التي كانت كافية، بدرجة عالية جداً قبل الاستقلال وبُعيده. أي كان هناك تناسب بين كمية الموارد وعدد السكان والحيوانات، حيث كانت السعة التحميلية للأرض واستخداماتها كافية للسكان الذين كان يبلغ تعدادهم ثلاثمائة ألف نسمة فقط، إبان استقلال السودان. حيث كان يعيش السكان على النشاط الإنساني الأولي والبدائي، المتمثل فى الزراعة من أجل الاكتفاء الذاتي والتقاط الثمار البرية والصيد والرعي على نطاق ضيق، وكان تبادل السلع فى الأسواق يتم عبر المقايضة، دون استخدام النقود، الا فى اطار ضيق لشراء السلعة الواردة غير المنتجة محلياً، وكان يسود الوئام الاجتماعي والتكامل والتكافل بين الناس كافة فى دارفور، في أبهى صور التعايش والتآخي. حيث كان المزارعون يحتاجون الراعى من أجل الإنتاج الحيواني والرعاة يحتاجون للمزارع من أجل منتجاته الزراعية والبستانية، وكل طرف يقدر هذا الدور والتخصص المهني، ومع تزايد أعداد السكان بأعلى معدلاته الطبيعية، في بيئة الرخاء التقليدي، وزيادة عدد الحيوانات، مع حدوث تناقص، كمي ونوعي للموارد الطبيعية المحدودة، نتيجة موجات الجفاف المتتالية التي ضربت الإقليم في مطلع سبعينيات القرن الماضي وخاصة فى شماله، واتساع نطاق الزحف الصحراوي، وتزامن هذه التغييرات البيئية، مع زيادة موجات الهجرة الوافدة من دول الجوار الدارفوري، ولا سيما أن معظم هؤلاء المهاجرين الوافدين هم من أصحاب الماشية، مما زاد الضغط على الطبيعة بشكل كبير وجائر، فى غياب أي خطوة تنموية لتلك الموارد بالاقليم، مع دخول اقتصاد السوق داخل القطاع التقليدي بغرض الصادر، وتغيير أهداف ومقاصد اقتصاد القطاع التقليدي، فوجد المزارع التقليدي نفسه أمام متطلبات حياة جديدة، تتطلب زيادة الرقعة الزراعية من أجل زيادة الإنتاج بغرض التسويق للحصول على النقد بدلاً عن الاكتفاء الذاتي فقط.
والراعى أيضأ بالإضافة للغريزة الطبيعية لامتلاك الثروة الحيوانية والتباهي بها، أصبحت له حوجة جديدة هي ايفاء متطلبات سوق الصادر، ولذلك يحتاج لتربية مزيد من رؤوس الحيوانات لإشباع حاجياته.
في هذا التطور الاجتماعي للمجتمع بدأت تهتز قيمه التكافلية، والتكامل المهني والتآخي والتعايش السلمي، التي كانت سائدة في ظل الاقتصاد التقليدي ذا الأغراض المحدودة.
أدت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الى تغيير نمط حياة المواطن من البسيط الى المعقد، في ظل غياب أي خطوة تنموية من الدولة لاستيعاب هذه التحولات، وغياب تام لأي دراسات تنبه الى احتمالات المستقبل، بدأ الصراع المهني بين المزارع والراعي في تصاعد عاماً بعد عام، على الأرض والماء والكلاء. ولأن الدولة غائبة تنمويا وأمنيا، أصبحت القبيلة هي حاضنة الصراعات والأفراد في الدفاع عن نفسها من قبيلة أخرى، وهكذا تناسل عدد من الصراعات البينية في الإقليم بزيادة موجات الجفاف، وبالنظر الى جدول الصراعات فى دارفور نجد أنها تتناسب طردياً مع موجات الجفاف وعكسياً مع هطول الأمطار.
وظل سكان الإقليم يعيشون فى مجتمعات تقوم على مؤسسات العشيرة والقبيلة عدا (سكان المدن) ذلك كنتيجة طبيعية لنمط الاقتصاد السائد بالإقليم والذى يقوم أساساً على الرعي المتنقل والزراعة التقليدية، وانقطعت معظم الأواصر بين العشائر الزراعية والرعوية في صراعها الحاد حول الموارد. وظل الوضع هكذا مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الى ان جاءت الإنقاذ بسياساتها الرعناء في المجال الاقتصادى، وعمق الأزمة الوطنية السودانية الشاملة، وعلى المستوى الاقتصادى تبنت روشتة البنك الدولي المعادية للعدالة والتنمية الحقيقية والتقدم. بالاضافة الى ذلك تخلي الدولة عن مسؤوليتها في حل المشكلة في دارفور من جذورها وحماية المواطن، الى أن اندلع التمرد السياسي المسلح، وعمت الحرب كل الإقليم وقد أساء نظام المؤتمر الوطني إدارة الحرب حيث تحالف مع بعض المجموعات الرعوية ضد المجموعات الزراعية المستقرة بالقرى والمدن، بحجة أن التمرد المسلح اندلع بداخلها. وقد تسببت هذه الحرب في قتل مئات الألوف، ونزوح أكثر من أربعة ملايين شخص معظمهم من مجموعات المزارعين الذين استوطنوا في معسكرات النزوح بالداخل واللجوء بالخارج، وبعد مضي خمسة عشر عاما من بداية الحرب الشاملة، بدأت أصوات من داخل النظام تنادي بالعودة الطوعية للنازحين واللاجئين، الى قراهم ومدنهم، دون حدوث أي تغيير في الأوضاع التي كانت سائدة قبل الحرب ودون معالجات لتداعياتها.
يتبع
Leave a Reply