إلى السيد وزير الثروة الحيوانية
د. فيصل الزبير
كلية الطب البيطري – جامعة الخرطوم
إن أمر تحسين سلالات الماشية السودانية ظل همًّا يؤرق مضاجع ذوي الاختصاص من الباحثين والعلماء والمهتمين بأمور الثروة الحيوانية في السودان في مجالات علم الوراثة والتناسليات.
والغرض من وراء التحسين الوراثي – كما هو معلوم لديكم – هو تحسين الأداء التناسلي والإنتاجي للمواشي السودانية سواء على مستوى إنتاج الألبان من أبقار البطانة والكنانة والهجين أو إنتاج اللحوم من سلالات الأبقار المحلية والضأن والماعز بمختلف سلالاتها.
وكما هو معلوم، فإن هناك طرقًا تقليدية عفا عليها الزمن لا زالت تُستخدم من قبل المختصين والمربين لتحسين التركيبة الوراثية عبر الاختيار الطبيعي والانتخاب (Natural Selection and Recruitment) والاستبعاد، وذلك بمتابعة الأمهات والآباء ومعرفة تاريخهم الوراثي (Pedigree)، ومتابعة أنسالهم (Progeny) عبر عدد مقدر من الأجيال لا يقل عن أربعة إلى ستة أجيال على الأقل فيما يُعرف باختبار الأنسال (Progeny Test).
غير أن هذه الطريقة تحتاج لزمن طويل للوصول إلى نتائج مرضية، كما أن نسبة التحسين فيها قد لا تتعدى 60%، وهو عمل تقليدي، نتائجه غير مضمونة بشكل قاطع ويستهلك الكثير من الزمن. ورغم أن هذه الطريقة ظل معمولًا بها منذ الألفية السابقة، إلا أن تطور علم الوراثة والتقانات الحيوية في التناسليات – لمساعدة الخصوبة (Reproductive Biotechnologies and Assisted Fertility) – أتاح حلولًا أحدث.
فقد تم إدخال تقنية التلقيح الاصطناعي في السودان منتصف سبعينيات القرن الماضي بإنشاء المركز القومي للتلقيح الاصطناعي، والذي تم عبره استيراد نُطف مجمدة من سلالات ثيران الفريزيان باعتبارها من أفضل سلالات إنتاج الألبان في العالم، حيث يصل متوسط إنتاج البقرة في الموسم حوالي (20 ألف لتر) مقارنة بـ (2 ألف لتر) فقط في الموسم لسلالاتنا المحلية.
ومن خلال الأبحاث التي أُجريت على سلالات الهجين، اتضح وجود تحسن نسبي في إنتاج الألبان والأداء التناسلي، لكنه ظل دون الطموح، حيث عانت أبقار الهجين من ضعف التكيف مع الأمراض المتوطنة خاصة المنقولة بالقراد، إضافة إلى نفوق كبير في المواليد بسبب أمراض الدم المنقولة بالقراد أو الإجهاد الحراري (Heat Stress) وأحيانًا بسبب سوء الإدارة. لذلك اتفق الباحثون – بعد دراسات معمقة – على ألا تتعدى نسبة الدم الأجنبي في الهجين 62.5% تفاديًا لتلك المشكلات.
لكن تجربة التلقيح الاصطناعي في السودان كادت أن تفشل في تحقيق أهداف التحسين الوراثي المطلوب، وذلك لأسباب عديدة متشابكة، منها الإداري ومنها اللوجستي. وظلت خدمات التلقيح الاصطناعي متأرجحة بين النجاح والفشل، ومحصورة في العاصمة والمدن الولائية الكبرى، بينما أُهملت الأرياف ومناطق الهامش – وهي الأكثر كثافة في الثروة الحيوانية. ويبدو أنه لم تكن هناك خطط قومية واستراتيجيات علمية قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأمد، وإن وُجدت لم تتم متابعتها بشكل لصيق. والأسوأ أن خدمات التلقيح الاصطناعي تُركت لاحقًا للشركات الخاصة بعيدًا عن قبضة وزارة الثروة الحيوانية الاتحادية.
إن أمر تحسين سلالاتنا المحلية يحتاج إلى تخطيط علمي ممنهج واستراتيجيات واضحة، وقبل ذلك إرادة سياسية حقيقية من قمة هرم الدولة. وفي تقديري، آن الأوان أن نصحو من غفلتنا، فبرغم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية للسودان عامة والثروة الحيوانية خاصة، إلا أن الفرصة ما زالت قائمة للنهوض.
وعلينا أن ننتهج طريقًا جديدًا مختصرًا بتبني تقنيات التناسل الحيوية الحديثة مثل:
نقل الأجنة (Embryo Transfer).
تجنيس الأجنة (Embryo Sexing) المصحوب بالتلقيح الاصطناعي.
تقنية الأجنة المعدلة وراثيًا (Genetically Modified Animals).
أو استيراد أجنة مجنسة من سلالات الألبان (الفريزيان، الجيرسي) أو سلالات اللحوم للوصول للتحسين المطلوب مباشرة وبأقصر الطرق.
ويمكن تنفيذ ذلك عبر خارطة استثمارية جاذبة، تستقطب مستثمرين وطنيين أو عربًا – خاصة من دول الخليج – أو من خلال شراكات ذكية مع صناديق استثمارية عربية، أسوة بتجارب دول الخليج العربي في إنتاج الألبان.
كما يتطلب الأمر تدريب وتأهيل كوادر بيطرية وكوادر وسيطة على هذه التقنيات الحيوية، وإنشاء مراكز تدريب محلية ومركز قومي لتقنيات التناسل الحيوي، مع ضمان استمرار برامج التربية التقليدية للمربين عبر الإرشاد البيطري.
ويقترح أن يكون هناك مساران للتربية في السودان:
1. مسار تقليدي عبر تحسين السلالات المحلية.
2. مسار حديث يعتمد نظم التربية المكثفة والمغلقة لإنتاج الألبان واللحوم من السلالات العالمية، بهدف الاكتفاء الذاتي أولًا ثم تصدير الفائض للحصول على العملات الصعبة.
كما يجب على وزارة الثروة الحيوانية إصدار قرار سيادي بوقف صادر المواشي الحية (الضان – الماعز – الأبقار – الإبل)، والتوجه إلى:
إنشاء المزيد من مسالخ الصادر في مواقع الإنتاج.
توسيع قدرات النقل وتعبيد الطرق القومية.
جذب الاستثمار في منتجات الألبان واللحوم.
تبني استثمارات جادة في الصناعات الجلدية ومشتقاتها للاستفادة من القيمة المضافة.
عندها فقط يمكن أن نحلم بمساهمة قطاع الثروة الحيوانية بما لا يقل عن 50 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي (Gross Domestic Product).
وقد يتفق معي بعضكم أو يختلف آخرون في هذا الطرح، لكن اختلاف الآراء رحمة ولا يفسد للود قضية.
والله من وراء القصد.

Leave a Reply