صامولة صامولة- (تفكيك الأنظمة بين الفلسفة والسياسة)

صحيفة الهدف

ليست اللغة أداةً للتواصل فقط، بل هي أيضًا مخزنٌ للذاكرة الجماعية، ومرآةٌ للعقل الجمعي، وأحيانًا – في اللحظات الفارقة من التاريخ – تتحوّل إلى سلاح رمزي يضرب في عمق البنية السياسية القائمة. من هذا الباب تخرج إلينا العبارة الثورية) صامولة صامولة (، لا باعتبارها مجرد شعار ميداني، بل كمنهج تفكيكي مُحمّل بحمولة فلسفية عميقة، تنبع من خبرة تاريخية في مواجهة الاستبداد، وتحوّل شعبيّ في وعي الثوار نحو أدوات التغيير الذكي لا الانفجار الغاضب.
عبارةٌ قالها الأستاذ المناضل محمد ضياء الدين عضو قيادة قطر السودان لحزب البعث العربي الاشتراكي ، في لقاء تلفزيونيّ قبل سقوط النظام وفي أوج سطوته وجبروته، أشار فيه لأهمية إسقاط النظام الاسلاموي المستبد وتفكيكه (صامولة صامولة)، فانتقلت إلى الشارع، ثم تحوّلت إلى أيقونةٍ يتردّد صداها في أزقة الثورة، وعلى شفاه الثائرين، وقد التقط هذه الإشارة الرمزية المناضل الأستاذ المناضل وجدي صالح، عضو قيادة قطر السودان لحزب البعث العربي الاشتراكي ،وعضو لجنة إزالة التمكين، فحوّلها إلى منهجية عملية في تفكيك البنية العميقة للنظام الاسلاموي الشمولي في السودان، لا عبر محاكمات سياسية فقط، بل من خلال استهداف (صواميل) السلطة المتغلغلة في المؤسسات والقطاعات كافة. بهذا الفهم، لم تعد العبارة مجازًا ثوريًا فحسب، بل أيقونة تنفيذية تختزل فلسفة اللجنة في اجتثاث النظام من جذوره، قطعةً قطعة، ومستوىً بعد آخر. لقد مثّلت (صامولة صامولة) عند الأستاذ المناضل وجدي صالح بوصلةً أخلاقية وتنظيمية في مواجهة نظام متجذّر، لئيم، يحاول أن يتسلّل من بين شقوق التغيير.
) الصامولة (، هذه القطعة المعدنية التي لا تُرى إلا حين تسقط أو تُنزَع، صارت استعارة للسلطة نفسها. ليست (السلطة) – كما يتوهّم البعض – رأسًا على قمة الهرم يمكن قطعه، بل هي شبكة متداخلة من العلاقات، والمصالح، والتقاليد، والولاءات، والتشريعات، وأجهزة الإعلام، والتعليم، والدين، والبيروقراطية. هنا، نجد ما يشبه أصداء الفيلسوف (فوكو) وهو يُحدّثنا عن (السلطة لا بوصفها بنية عمودية، بل كـنسيج أفقيّ يتخلل كل المفاصل). والعبارة إذ تقول (صامولة صامولة)، فإنها تنبه إلى أن التغيير ليس حركة هدم بل عملية تفكيك واعٍ، مثل من يعمل على تفكيك آلة معقدة دون أن يتركها تنفجر في وجهه أو وجه مَن حوله.
في هذا السياق، تشبه (صامولة صامولة) تعويذة ما بعد حداثية، تنزع من الثورة طابعها الكلاسيكي المتسرّع، وتمنحها عمقًا تأمليًّا، حيث لا يكون الهدف هو الانتصار اللحظي، بل تحطيم البنية الداخلية للاستبداد، بحيث لا يجد لنفسه طريقًا للعودة. تفكيك لا تدمير. تعرية لا صدام. كأنما العبارة تقول لنا (أن الثورة الحقيقية ليست لحظة انفجار، بل مشروع طويل النفس، دقيق الأدوات، يعمل في الصمت، وفي التفاصيل، وفي الهامش حيث يختبئ الاستبداد).
في عالم مأخوذ بسحر العناوين الضخمة، والمفردات النارية من قبيل (إسقاط النظام)، (الانتفاضة)، (الثورة)، تختار العبارة أن تعود إلى لغة الورشة، لغة العامل، لغة الصانع، وتقول لنا، أن هذه السلطة ليست جبّارًا خارقًا، بل آلة يمكن فهمها وتفكيكها. وبدلاً من أن ننهك أنفسنا في الاشتباك مع كلّ الواجهة، نذهب إلى قلب الآلة، إلى البرغي، إلى الصامولة، حيث يكمن سرّ التماسك.
في تكرار العبارة (صامولة صامولة)، هناك إيقاع لا يخلو من أصداء الشعر الصوفي أو الذكر الصوفي، حيث يتكرّر اللفظ لا لإعادة المعنى، بل لتعميقه، للتغلغل فيه. هو تكرار طقسيّ يُحوّل العبارة إلى فعل روحيّ، لا مجرد إجراء سياسي. التغيير هنا لا يُقاس بصرخة، بل بصرامة؛ لا بتوهّج الحشود، بل بتماسك المشروع.
) صامولة صامولة (هي ما بعد الثورة، كما هي ما قبلها. هي تفكيك البنية التي أنجبت النظام، وليست فقط مواجهة النظام في شكله المُعلَن. إنها تجاوزٌ لسذاجة الصراع مع الرأس الظاهر للسلطة، نحو وعيٍ دقيق بتشظي السلطة في الجسد الاجتماعي، في المدرسة، في المسجد، في القبيلة، في العقل. ولهذا فهي دعوة لاجتثاث النظام من جذوره الثقافية والمعرفية، قبل مؤسساته الرسمية.
وفي النهاية، فإن (صامولة صامولة) ليست مجازًا في اللغة فحسب، بل مشروعًا فلسفيًّا للتحرر، يتحدّى السردية الساذجة عن إسقاط النظام، ليقترح علينا سردية البدء من الجذور. هي فلسفة ثورية لا ترى في الحاكم رأس الأفعى، بل ترى الأفعى شبكةً من الصواميل التي يجب فكّها بمهارةٍ ودرايةٍ وصبر، حتى تنهار المنظومة دون ضجيج ودون ارتداد.
لقد علّمتنا التجارب أن النظم المستبدة لا تموت بسقوط رمزها، بل كثيرًا ما تعود، بأقنعة مختلفة، لأن جذورها لم تُقتلع. ولهذا فإن الثورة التي لا تؤمن بـ(صامولة صامولة) غالبًا ما تنتهي إلى إعادة إنتاج ما ثارت عليه. وكما يُقال، ليس المهم أن تسقط الصامولة، بل أن تعرف أيّ صامولة تبدأ بها، وأين تضع يدك، ومتى تُدير المفتاح.
ليست الثورة مجرد لحظة غضب عابرة، بل هي مشروع تفكيك دائم. فهل نكتفي بخلع رأس النظام، أم نجرؤ على فك كل صامولةٍ تُمسك بجذور الاستبداد؟ السؤال الحقيقي ليس كيف نسقط النظام، بل كيف نضمن ألّا يُعيد تركيب نفسه من جديد. لأن التاريخ يعلمنا أن الأنظمة لا تموت عندما يُزال حاكمها، بل عندما تُقتلع كل الصواميل التي تمنحه قوته الخفية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.